لم يعد مشهد التدخلات الإقليمية السافرة في ليبيا بحاجة إلى شرح مستفيض، إذ تكفي الإشارة إلى أن طائرات أردوغان، التي تنقل الأسلحة للإرهابيين على الأراضي الليبية، باتت تُقصف بصواريخ الجيش الوطني الليبي على الملأ، وتبث الصور على وسائط الإعلام المحلية والدولية.
جهاراً نهاراً ترسل تركيا الأردوغانية طائراتها من طراز «إليوشن» لمطار مصراته، لكن أعين وآذان المخلصين والوطنيين من أبناء الليبيين، كانت لها بالمرصاد، بالضبط كما ترصد وجود عسكريين أتراك في غرف العمليات العسكرية على أراضي طرابلس.
السؤال الحقيق بطرحه... ما الذي ينتظره المجتمع الدولي للتدخل بجدية، وإنهاء حالة التخاذل الأممي تجاه منطقة تكاد تضحى قلب الإرهاب العالمي الجديد؟
أميركياً، ورغم اغتيال سفير لواشنطن في بنغازي عام2012، اكتفى الرئيس أوباما بدعم لفظي للمفاوضات، وفضل البقاء بعيداً، وتمسك بتنظيره الأيديولوجي من وراء الكواليس، ومن غير اقتراب ناجع ينتشل الليبيين من وهدة الجحيم والحرب الأهلية، وربما كان حال الرئيس ترامب أفضل كثيراً، وبخاصة لجهة تفهمه للمهام الوطنية التي يقوم بها المشير حفتر بوصفه قائداً أعلى للقوات المسلحة الليبية، تلك المنوط بها الحفاظ على الشرعية من جهة، ومجابهة ومواجهة الإرهاب السرطاني المستشري في طول البلاد وعرضها من ناحية ثانية.
ماذا عن الاتحاد الأوروبي وفرنسا تحديداً التي لا يوفر أي تحليل دورها الجذري في إنهاء حكم القذافي، فرنسا التي لم تضع نقطة ومن أول السطر لاحقاً، ومن دون أي سيناريو لليوم التالي، ذلك الخطأ الاستراتيجي القاتل الذي قاد إلى ما نحن فيه؟
الشاهد أنه لا يوجد نهج أوروبي واحد متماسك، ولا يمكن الزعم بأن هناك رؤية سياسية أوروبية لحل عقدة ليبيا وصراعاتها، سيما وأن الصراع بين إيطاليا وفرنسا، أضحى تسارعاً وتنازعاً براجماتيْين ممجوجين من جراء المنافع المتعلقة بالنفط والطاقة، أما عن حال ومآل الشعب المنهك فأمره لا يمثل أهمية في السلم الهيراركي الأوروبي.
ما يهم الأوروبيين هو تسخير القيادات الليبية للوقوف صفاً وحداً في مواجهة موجات الهجرة وجحافل المهاجرين القاصدين أوروبا، ولهذا كانت «حكومة الوفاق» تلقى تأييداً لفظياً من روما، أما باريس فمن الواضح أنها تقف خلف حفتر.
في الاتصال الأخير الذي جرى الأيام القليلة الماضية بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، يكاد المرء يتوجس قلقاً أوروبياً غير اعتيادي تمثل في تأكيد الرئيس الفرنسي على «أهمية الخروج من الوضع الراهن وتسوية الأزمة الليبية، وتمكينها من استعادة دورها إقليمياً ودولياً».
التصريحات وحدها لا تكفي لإنهاء الأزمات، ومن دون جهود مخلصة قوية تُحركُ المجتمع الدولي برمته، عبر مجلس الأمن، ومن خلال الوقوف وراء الشرعية الليبية ودعم القوات العسكرية الوطنية، فإن كارثة ليبيا لن توفر أحداً، سيما وأن هناك من يود تكرار تجربة تصعيد الإرهابيين إلى مقاعد السلطة، الأمر الذي تدعمه قطر بأموالها وإعلامها، بينما تركيا ترسل أسلحتها.
ويكاد الناظر إلى ما هو أبعد من ليبيا يرى اضطراباً في الساحل الأفريقي بداية، ثم العمق الاستراتيجي للقارة السمراء لاحقاً، ولهذا بدأت المعارك تنحو إلى الأطراف، كما الحال في الجنوب الليبي جهة «سبها» وبقية المناطق التي يتسرب منها الإرهاب إلى بقية دول القارة الأفريقية الواهنة أمنياً.
لم يعد ماكرون وحده فقط المرتاع من أن تتحول ليبيا إلى بؤرة إرهابية على ساحل المتوسط، إذ وافقه القول رئيس النيجر «محمد ايسوفو» الذي أرجع جميع النزاعات في بلدان الساحل الأفريقي المجاور إلى الأزمة الليبية، ومشيراً إلى علاقة ما يحدث في جنوب ليبيا مع تصاعد نفوذ جماعات أصولية إرهابية مثل «بوكو حرام»، و«حركة الشباب» في الصومال، وبقية الجماعات الخارجة عن القانون في تشاد.
الذين تابعوا المؤتمر الصحفي لمبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا الدكتور غسان سلامة، ربما قدروا خطورة الموقف هناك، سيما وأن الرجل لم يتوانَ في التحذير من المصير الذي ينتظر العالم وليس الليبيين فقط، حال نشوء وارتقاء الفصل الثاني من قصة «داعش»، وربما ظهور ما هو أشرس منها.
كانت الهدنة خلال العيد اختباراً للنوايا، غير أنها لم تصمد لساعات، وفقدت الأمم المتحدة بعض رجالاتها على الأرض هناك من جراء السيارات المفخخة، فيما الطائرات من دون طيار، لا تزال تعيث فساداً في الأجواء الليبية، ما يجعل التساؤل بعد العيد ماذا سيكون من شأن الصراع الممتد؟
لا يبدو المجتمع الدولي في واقع الحال مهموماً كثيراً بما يحدث على الأراضي الليبية، فالأنظار متجهة إلى مناطق ساخنة وملتهبة أكثر، لا سيما بسبب إيران وحالة عدم الاستقرار التي تسببها في الخليج العربي والشرق الأوسط، ولهذا فأغلب الظن أن الملف الليبي سيبقى طويلاً في حالة من المأساة «السيزيفية»، وحتى يعي الليبيون أنفسهم أخطار التدخلات الخارجية التي تكاد تقسم بلادهم، إن لم تكن قد قسمت بالفعل؟
*كاتب مصري