يؤمن كثير من الساسة، على مدار التاريخ، بأمرين في الكلام أو الخطاب الموجه للناس، الأول هو أن ما يقال ليس بالضرورة يمثل تعبيراً كاملاً عن كل ما تم فعله أو تدبيره والاتفاق عليه، والثاني هو أنه «ليس كل ما يعرف يُقال»، وبذا يكون المسكوت عنه في الخطاب السياسي، وربما المضمر السابح بين السطور الظاهرة أعرض أحياناً مما تم عرضه في وضوح وصراحة، ولا يحتاج إلى تأويل.
ويمكن التعامل مع هذا المضمر مجازاً بوصفه فراغاً ما، أو مساحة خلاء محددة داخل النص أو الخطاب، متروكة لمن يسمعه أو يقرأه كي يقوم هو بردمها، ليشغل هذا الفراغ أو يسده، كما يحلو له، وليس بالضرورة كما يريد منتج الخطاب، ويؤدي هذا أحياناً إلى تصدير التنازع حول ماهية المخفي والمضمر من أن يكون بين الجمهور والسلطة إلى أن يدور بين جماعات من الجمهور نفسه، سواء على وسائل التواصل الاجتماعي، أو في اللقاءات المباشرة التي تجمع الناس في أماكن العمل والترفيه.
وقد ميز اللسانيون، على اختلاف منطلقاتهم المستندة إلى الفلسفة والمنطق وعلمي اللغة والاجتماع وغيرها، بين اللغة العلمية التي تتسم بوحدة الدلالة، ووضوح البيان، واللغة العادية المسربلة باللبس والاحتمال والغموض والتلميح والإضمار، وهي سمات وصفات نجدها كلها أو بعضها في اللغة السياسية المتبادلة والمتداولة.
وتتسع مساحة الإضمار وتضيق وفق الظروف التي يُنتج فيها الخطاب أو التصريح، ففي الدول الديمقراطية حيث يتوفر قدر مناسب من الشفافية والمساءلة، يكون المسؤولون أكثر صراحة، وكذلك في بعض النظم السياسية التي تربط الشعوب فيها بأهل الحكم علاقة من الود والتفاهم، أو التي تقودها شخصية كارزمية يثق الشعب فيها، ويقبل منها أغلب ما تقول، أو بمعنى أدق، تقبل أغلبيته الكاسحة ما يصدر عن هذه القيادة من قول وفعل.


في الحالة العربية، فإن مساحة المضمر كبيرة، في الغالب الأعم، وتشيع في العادة عبارات فضفاضة مثل «بحث القضايا ذات الاهتمام المشترك»، وهي إن  كانت موجودة في صحف أخرى عالمية من الغرب والشرق، فالأمر ليس بهذا التكرار الكبير الذي تعرفه الحالة العربية، فالتعبير يترك لسامعه أو قارئه أن يخمن هو ما تمت مناقشته، في هذا اللقاء أو ذاك، لا سيما إن لم يصدر بيان رسمي عن اللقاء، أو يعقد مؤتمر صحفي بعده، يوضح فيه ما تم بالفعل.


وبالطبع، فإن النظر إلى هذا المضمر يختلف من السلطة إلى الشعب، أو من الحاكم إلى المحكومين، وهنا يقول صالح السنوسي: «المفارقة التي تقع في الغالب بين المعني المصرح به والمعني المضمر لمصطلح من المصطلحات في الخطاب السياسي تؤدي إلى مفارقة أخرى بين ما ينتظره صاحب الخطاب من ردود أفعال من جانب المتلقي، وما يأتي به هذا الأخير من استجابة مغايرة، فعندما يستخدم الخطاب السياسي الحاكم في لغته أفعال السلطة كالحث والتحريض والدعوة للتصدي لخطر يهدد الدولة أو الوطن، فإنه ينتظر ويريد من المتلقي أن يأتي بأفعال وسلوكيات بناءً على اعتقاده الجازم بأن الخطر يهدد فعلاً الوطن أو الدولة، غير أن المتلقي قد يفهم المعنى الذي يعتقد أنه الحقيقي أي المضمر وليس المصرح به، وبالتالي فمن المحتمل أن تأتي ردود أفعاله على غير ما يريد وينتظر صاحب الخطاب، وهذا يعد في نظرنا نتيجة متوقعة لأزمة المصداقية التي يعاني منها الخطاب السياسي».
ومعنى هذا، أن بعض ردود الأفعال السياسية من قبل المتلقي وهو الجمهور، من الممكن أن تكون في أحيان كثيرة قائمة على المضمر والمخفي، وليس على المعلن والصريح والمحدد، وفي الأزمات قد تحتاج الجماهير إلى الصراحة أكثر من الغموض، فإن لم تدرك السلطة ذلك، لتقديرات وقياسات خاطئة، فإنها قد تدفع ثمناً باهظاً بسبب المضمر أو المسكوت عنه، وليس بسبب تجاوز أو خطأ في الكلام.
ـ ـ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ
روائي ومفكر مصري