تبدو الثرثرة السياسية، إنْ استفحلت، أشبه بطحن الهواء، أو إدارة الفراغ، فهي تتعدى البوح والتسرية عن النفس المكبوتة والمقموعة، ولا يمكن اعتبارها نوعاً من الرغبة المشبوبة الساعية إلى الانخراط في نقاش جاد، أو حوار، له قواعد وأسس وشروط، وسيؤدي إلى نتائج مفيدة في فهم الواقع وتفسيره، ومن ثم تغييره، ولو تدريجيا، لهذا لا نبالغ إن أطلقنا عليها «الكلام الفارغ»، أي الذي يخلو من مضمون، ولا يستند إلى معلومات أو رؤى خلفية وتصورات، ولا يخضع نسق فكري، ولا يعبر عن موقف واتجاه سياسي محدد لمن يطلقون بعض حصاد ألسنتهم في آذان بعضهم البعض.
والحالة السياسية العربية تعاني في وقتنا الراهن من كلام شخصين: الثرثار وهو «الذي يكثر الكلام تكلفا، ويخرج عن الحق» والمتشدق الذي «يتوسع في الكلام من غير احتياط ولا احتراز»، كما يقول محمد بن البكري الشافعي. وعززت وسائل التواصل الاجتماعي أو ما يسمى «الإعلام الجديد» من هذا العيب، حيث شاع الكلام الذي لا طائل منه، ولا مضمون له، حتى سمى البعض هذه الحقبة «زمن الثرثرة» بعد أن صار المبدأ المرفوع هو «أنا أثرثر إذا أنا موجود» حسب قول نصار وديع نصار. فالكلام صار غير منضبط، وفائض عن الحاجة، ويرمي إلى الإضرار بالآخرين، والنيل من سمعتهم أو تجريحهم، أو إضاعة وقتهم، وإرهاقهم نفسيا وذهنيا.
وتزيد الثرثرة نتيجة عدة أسباب:
أولاً: شهوة الكلام: فالبعض يطلق القول على عواهنه بلا تدبر لمعانيه ومراميه، مدفوعاً برغبة قوية في الحديث بأي شكل، حتى لو لم يكن لديه ما يقوله، أو كان ما يقوله ليس فيه ما يبين فهمه له، أو إلمامه بأطراف القضية التي يتحدث فيها، ولو إلماما بسيطا.
ثانياً: ضعف الوعي، فقلة المعرفة أو العلم وغياب المنطق يجعل أحياناً ذهن المتحدث مشوشاً، ففضلاً عن غياب المضمون العميق لكلامه فإنه سيكون كلاماً غير مرتب، بلا هدف.
ثالثاً: تغليب الهوى، فمن ينخرطون في نقاش إنْ غلب هواهم رشدهم، خرج حديثهم أجوف، لا قيمة له، ولا طائل منه سوى تضييع الوقت. فكل طرف لا يريد أن ينتصر للحقيقة، إنما ينتصر لنفسه، فينتهي الأمر إلى جعجعة بلا طحن.
رابعاً: غلبة الاستعراض، وهذه آفة انتبه إليها أصحاب الفكر منذ السوفسطائيين، الذين كانوا بارعين في تقديم حجج بلاغية، تجعلهم يظفرون في المواجهات الحجاجية على حساب الحقيقة ومنفعة المجتمع ومصالحه. ورغم أن أمثال هؤلاء يتمتعون بمهارات فائقة في صياغة ألفاظ لافتة، وحجج شكلية متماسكة، فإن هذا السبك لا يخدم الوصول إلى الأهداف والغايات الخيّرة.
خامساً: تعويض النقص، فهناك من يعوضون نقص معارفهم بإطلاق الألفاظ المرتبة ذات الجرس والإيقاع القوي، التي تلفت الانتباه لذاتها، دون أن تعطي أي معنى. ويحضرني في هذا المقام ما قاله د. صلاح فضل في سيرته الذاتية واصفاً أحد أساتذة دار العلوم قديما: «كان لديه قدرة عجيبة على أن يتكلم ساعتين متواصلتين دون أن يقول شيئا».
سادساً: الاستسلام للمحن، فهناك من تفقده المحن صوابه فيهذي. ويزيد الهذيان حتى يصير ظاهرة تصيب المجتمعات حين تعجز عن الاهتداء إلى حلول سريعة ومنطقية وناجعة لمشكلاتها. فبعد الهزائم والانكسارات، يرمي بعض الناس كلاماً في الهواء، لا ليساعدهم على فهم ما حل بهم وكيف يخرجون منه، لكن ليشعرهم أنهم لا يزالون على قيد الحياة، وهو غاية ما يتمنونه في الأيام العصيبة.
لكن الثرثرة قد تكون مقصودة أحيانا لتحقيق ثلاثة أهداف: عرقلة التسويات السياسية، وكسب الوقت أثناء التفاوض، وممارسة الخداع السياسي للأعداء أو للجماهير العريضة، وبذا يتحدد لها مسار ووظيفة، وتكون قادرة على إشغال جزء من فراغ اللفظ والمعنى.
*روائي ومفكر مصري