لطالما زعمت أن الهوية الأميركية مختلفة اختلافاً جذرياً عن هويات معظم الدول الأخرى في العالم. وعلى رغم من أن هويات معظم الدول تقوم على أساس عرقي، إلا أن كون المرء أميركياً يمثل فكرة شاملة تتجاوز العرقية. وعلى مدار قرون، استوعبت أميركا الناس من أرجاء العالم كافة، وفي غضون أقل من جيل، أصبحوا أميركيين. وبينما أصبحوا كذلك، لم يتغيروا فحسب، وإنما تغيرت هويّة أميركا ذاتها.
ولم يكن الأمر سهلاً دائماً، فكثيراً ما واجه القادمون الجدد مقاومة في صورة تمييز وإقصاء. لكن على الرغم من التعصب ضد كثير من الناس المتنوعين الذين جاؤوا إلى شواطئنا، بات المهاجرون الذين وصلوا موجة تلو الأخرى أميركيين، وفي هذه الأثناء، غيّروا الثقافة والموسيقى والطعام وحس الفكاهة وحتى التاريخ في أميركا.
وبالرغم من المقاومة والمواجهة ضد الموجات الأخيرة من القادمين الجدد، إلا أن هذا دأب أميركا منذ أجيال. لكنني مع ذلك، أعتقد أننا الآن نشهد خطراً داهماً على جوهر الهوية الأميركية، وتحضرني قصة في هذا الصدد: قبل بضعة أعوام، دُعيت كمتحدث إلى حفل عشاء تكريماً لأميركي عربي من أصل لبناني تقاعد من منصب رسمي منتخب في أميركا. وأقيم الحفل في مركز كانت قد بنته الجالية الأميركية اللبنانية المحلية. وفي ردهة المبنى عُلّقت صور للتباهي بأفراد هذه الجالية العرقية الذين خدموا في الجيش الأميركي. وكانت هناك مجموعة من الصور لشباب وشابات في الزي العسكري تعود إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية وحروب أخرى وصولاً إلى الحربين في العراق وأفغانستان. ولأن القصة التي يحكيها معرض الصور ذلك كانت أميركية بامتياز، قررت أن أذكر الأمر في كلمتي.
لكن قبل إلقاء الكلمة أمام الحفل، رحّب مدير الفاعلية السفير الزائر من لبنان ببضع كلمات. وتحدث عن افتخار لبنان بالنجاحات التي حققها مهاجروها وأبناؤهم في الولايات المتحدة. وبالطبع، ثمّنت حُسن تصريحاته إلى أن انتقل مع اقتراب نهاية حديثه إلى إعلان أن الأميركيين من أصل لبناني يحق لهم التصويت في الانتخابات اللبنانية المقبلة. وبصفتي شخصاً قضى أكثر من نصف حياته يناضل من أجل تأمين دور الأميركيين العرب في السياسة الأميركية، وتسجيل الناخبين من الأميركيين العرب، ومؤازرة من يترشحون منهم لشغل مناصب منتخبة، شعرت بالرعب من ذلك الإعلان.
وعندما جاء دوري في الحديث، شعرت بضرورة البدء بتوضيح رفضي لتصويت الأميركيين من أصول لبنانية في انتخابات لبنان لسببين. الأول: أن أسلافنا قد اختاروا، فأصبحوا أميركيين، وحاربوا من أجل أميركا، وناضلوا للحفاظ على مكانهم في أميركا. لذا، فإن الانتخابات التي يتعين علينا التصويت فيها هي هنا في أميركا. الثاني: أنني أعتقد أنه بالنظر إلى أننا لن نضطر إلى العيش مع تبعات نتيجة التصويت في لبنان، فليس لنا الحق في تقرير من سيحكم في تلك الدولة.
وبات التصويت في انتخابات أجنبية ظاهرة جديدة ومتنامية بين كثير من الجماعات العرقية في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنه يمكن تفهمها بالنسبة للمهاجرين حديثاً الذين لا يزالون يحتفظون بروابط قوية مع بلادهم الأم، إلا أنها مقلقة لأنها تتسبب في تشتيت التركيز والولاء.
ولابد من طرح أسئلة جادة عندما نرى الجنسية والهوية تُلقى مثل معطف قديم. فلطالما تساءلنا كيف يمكن أن يكون مشروعاً لمواطنين أميركيين القتال في صفوف الجيش الإسرائيلي والاستيطان في الضفة الغربية أو أن يصبحوا مسؤولين إسرائيليين (مثل السفير الإسرائيلي الحالي لدى أميركا). لكن لابد أيضاً من طرح السؤال ذاته على الفئات الأخرى في المجتمع. فعندما غادر مسؤولان، خدما في إدارة بوش، مع نهاية فترته، وترشحا لمنصب في اثنتين من دول الشرق الأوسط كان قد هاجرا منهما، بات لدينا سبب منطقي أن نتساءل حول ما يعنيه ذلك حول كونهما أميركيين.
ورغم أنني أعربت عن تفهمي، لكنني لازلت قلقاً من تصارع الولاءات بين المهاجرين الجدد، وما يقلقني بدرجة أكبر هو زيادة أعداد المواطنين الشباب المولودين في أميركا الباحثين عن ازدواج الجنسية في دول أجنبية. وهذه الظاهرة ليست مقصورة على الأميركيين من أصول عربية، وإنما تحدث بين كثير من الفئات العرقية الأخرى.
وفي حين أن الحصول على الجنسية الأميركية وحق التصويت وجواز السفر الأميركي كانت من الأهداف التي سعت إليها أجيال من المهاجرين، لابد أن نسأل عن السبب الذي جعل بعضاً من أحفادهم يتوقفون عن الشعور ذاته بالفخر والانتماء والسعي إلى التراجع عن ذلك وازدواج الجنسية. ويثير الأمر تساؤلات خطيرة حول تفكك الانتماء للهوية الأميركية.
ويلقي البعض باللوم على الرئيس ترامب بسبب تنفيرهم ودفعهم إلى البحث عن هويات بديلة. لكن على الرغم من ذلك، لا يعتبر ترامب وحده، إلى جانب التصريحات القاسية المعادية للأجانب من أعضاء الحزب «الجمهوري»، مسؤولاً عن هذه الظاهرة، وإن كانت سلوكياته بلا شك تؤجج هذا المناخ الصعب الذي نعيش فيه.
فقد أسهم «الديمقراطيون» أيضاً بطريقة عكسية في تفكك الهوية الأميركية، لاسيما أنه أثناء سنوات إدارة أوباما، بدأت وزارة الخارجية «مبادرة الشتات»، في إشارة إلى أبناء المهاجرين الأميركيين، وحضّتهم من خلالها على الاستثمار وحتى التصويت في «دولهم الأصلية»!
رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن