بعيداً عن صورة التبرير والتناقضات والنفي ثم الاعتراف بحقيقة الزيارة إلى إسرائيل التي جاءت في المقابلة التليفزيونية مع محمد العبار رئيس مجلس إدارة شركة "إعمار"، والتي دار موضوعها حول حقيقة زيارته السرية إلى إسرائيل بخصوص شراء بيوت المستوطنات التي ستنسحب منها القوات الإسرائيلية في قطاع غزة، فإنني أقول إن هذه الزيارة كشفت بدقة مدى خطورة ما يجري في المنطقة وطرحت الكثير والكثير من علامات الاستفهام والدهشة، وخاصة أنها جاءت في وقت تعاني فيه الأمة العربية والإسلامية من هجمة استعمارية شديدة وحرب غربية شرسة على الإسلام وأهله، في وقت أصبحت الخريطة العربية والمنطقة العربية بأكملها تحت مظلة الهيمنة الأميركية. والمدهش حقاً في هذا الموضوع أنه بين يوم وليلة يصبح البعض في ظل هذه الأحداث الخطيرة التي تحيط بالأمة العربية رجل الخير الأول، يكسر الحواجز والثوابت والأعراف والتقاليد والقوانين ويكسر معها الحد الفاصل بين مفهوم السياسة ومفهوم العمل الخيري بين قرار الدولة وقرار الفرد، ويقوم بتحركات مشبوهة تخدم مباشرة مصلحة إسرائيل الاقتصادية التي تدهورت تدهوراً خطيراً بسبب الانتفاضة والمقاطعة العربية. ومن يحلل حديث الزيارة بدقة ويتعمق فيما بين المعاني والسطور والكلمات وخاصة فيما جاء فيها من إساءة إلى دور الصحافة والأقلام الوطنية ولجنة الإمارات لمقاومة التطبيع، سيدرك جيداً أن الزيارة كانت تتجه وبقوة إلى تهيئة الرأي العام لقبول حالة التطبيع مع العدو الإسرائيلي تحت عناوين مختلفة (شراء المستوطنات) و(العمل الخيري). وهذه أول مرة أعرف أن هناك أشخاصاً لديهم مهارة عالية في تحويل زيارتهم الخيرية إلى تجارة مسمومة تثير عواطف الرأي العام نحو إسرائيل، أول مرة يتحول فيها ملف شارون وبيريز الأسود والملطخ بدماء العرب إلى ملف أبيض يعمل لخير الفلسطينيين.
والسؤال المهم هنا هو: هل يعقل أن تكون كل هذه الهرولة واللقاءات السرية بالمسؤولين الإسرائيليين فقط بهدف شراء المستوطنات؟ هل يعقل أن تكون مثل هذه الصفقات السرية مدخلاً حقيقياً لتهيئة الرأي العام لعلاقة سوية وسليمة مع دولة عبرية دموية محتلة تستظل بعباءة السفاح شارون وتعلن بوضوح أنها لن تتخلى عن القدس أو مشاريع الهيمنة على المنطقة؟ إن هذه الحالة وهذا التحول الخطير في المواقف من المطالبة بمقاطعة إسرائيل إلى هرولة هستيرية نحو إسرائيل ستكون له مستقبلاً انعكاسات خطيرة على الوضع العربي بأكمله وخاصة أن إسرائيل لا زالت حتى الآن تمارس روح الهيمنة والاحتلال والسيطرة والامتداد في الوطن العربي لتحقيق هدفها الأكبر وهو (إسرائيل الكبرى). وتفاصيل خطتها المنشورة تحت اسم (الهندسة السياسية لخريطة الشرق الأوسط)، تقول فيها بصراحة: إنه خلال العشر سنوات القادمة ستصبح هي القائد والمحرك الاقتصادي لدول المنطقة وإنه في عام 2020 ستكون هي القائد السياسي والاقتصادي والأمني الفعلي في المنطقة، وسيكون لها الحق في التدخل في شؤون المنطقة وفرض الوصاية السياسية والأمنية والثقافية على الأجيال العربية القادمة، وإنها ستعمل بقوة على الإسراع في خطوات التطبيع مع الدول العربية بواسطة بعض العرب، وإنها تنوي في الفترة القادمة تصفية المزيد من القيادات والرموز العربية والإسلامية التي قد تعارض سياستها في المنطقة وإن نطاق عمل الأجهزة الإسرائيلية "الموساد" سيمتد وينطلق إلى عدد من الدول العربية خلال عامي 2005 - 2006.
القضية إذاً ليست شراء المستوطنات، القضية أخطر وأكبر من ذلك بكثير، وغالباً ما تكون مثل هذه الزيارات والصفقات لها شروط إسرائيلية سرية محددة تكمن الإشارة إليها في بنود الاتفاقية بوسائل عديدة. وكما يقال فإن الشيطان يكمن عادة في التفاصيل، وأن شيطان هذه الزيارة يكمن في النتائج الخطيرة والبعيدة المدى على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لبلد بأكمله، إن مثل هذه الصفقات التي بدأت تتحرك في الوطن العربي ضمن استراتيجية وخطوط عريضة تحددها قوى الهيمنة الخارجية بهدف إخضاع المنطقة للهيمنة الصهيونية يجب الانتباه لها والحذر منها والوقوف بقوة ضدها وضد من يروج لها وضد هذه النزوات الفردية المادية خاصة بعد أن أصبحت مثل هذه النزوات الفردية لا تقف عند حدود معينة وخطوط حمراء أو حواجز محددة وثوابت وطنية واضحة.