كيف تستطيع البلدان الديمقراطية مقاومة منافسيها السلطويين في الخارج في وقت باتت فيه الأفكار المعادية لليبرالية في صعود في هذه البلدان نفسها؟ كان هذا تحدياً واجهته أحزاب يسار الوسط الأميركية والأوروبية خلال الحرب الباردة، عندما دفعتها الحاجة إلى موقف قوي ضد الاتحاد السوفييتي إلى كسر المتعاطفين الشيوعيين والعناصر الموالية للسوفييت. واليوم، هناك مشكلة مشابهة تعاني منها العديد من الأحزاب المحافظة في العالم الديمقراطي.
فبينما يحتدم التنافس الدولي ويشتد، تتمثل المهمة الاستراتيجية الجوهرية للمجموعة الديمقراطية بقيادة الولايات المتحدة في احتواء النفوذ الجيوسياسي والاضطراب السياسي الذي تتسبب فيه القوى العظمى التي لا تهتم بالديمقراطية. غير أن تلك المهمة ازدادت صعوبة لأن التوجهات المعادية لليبرالية – والتعاطف مع تلك القوى المعادية لليبرالية – تزداد بشكل متزامن بين اللاعبين الرئيسين على اليمين السياسي. وإذا كان يراد للولايات المتحدة وحلفائها النجاح في التنافس العالمي العظيم للقرن الحادي والعشرين، فإنه يتعين على اليمين مواجهة تهديد معاداة الليبرالية داخل صفوفه – تماماً على غرار ما فعل اليسار خلال كفاح سابق في القرن العشرين.
هذه المرة التهديد ليس هو الشيوعية التوسعية، وإنما تضافر عاملي السلطوية ونزعة جيوسياسية لمراجعة النظام العالمي الذي أقيم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فالصين تسير نحو مستقبل يتسم بالتكنولوجيا الفائقة، بينما تدفع في اتجاه مزيد من القوة والنفوذ في الخارج. وروسيا بوتين قوّة معاديةً لليبرالية، بموازاة مع استخدامها حرب المعلومات، والتدخل السياسي، ووسائل أخرى لتخريب الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا والولايات المتحدة وغيرهما. وعلاوة على ذلك، فإن كلا البلدين يروجان لقيم نظاميهما بينما يقولان إن القيم الغربية هي مصدر الانحلال وانعدام الأخلاق والفوضى في العالم الغربي.
هذه لحظة يحتاج فيها «العالم الحر» إلى أن يكون قوياً وموحداً. ولكن بدلاً من ذلك، يتزايد الاستياء من الديمقراطية الليبرالية ويكتسب زخما، ولاسيما على اليمين.
ففي أوروبا، لم تكتف أحزاب اليمين المتطرف مثل «البديل من أجل ألمانيا» و«التجمع الوطني» في فرنسا (المعروف سابقا ب«الجبهة الوطنية») بتبني خطاب قاس مناوئ للهجرة والمهاجرين في الحملات الانتخابية. ولكنها أبدت أيضاً التزاما مشكوكا فيه ببعض الحمايات والحقوق الفردية – مثل حرية التعبد – التي توجد في قلب المشروع الديمقراطي الليبرالي. فباسم حماية المجريين من المهاجرين وأعداء آخرين، بدت الأمور كما لو أن رئيس الوزراء فيكتور أوربان يدشن إطاراً لدولة معادية لليبرالية ما انفكت تقلص المساحة المتاحة للمعارضة السياسية. وفي البرازيل، أصدر الرئيس جايير بولسونارو تهديدات ضد بعض الأقليات.
وليس اعتباطاً ما كتبه العالم السياسي «مارك بلاتنر» من أن أخطر تهديد للديمقراطية الليبرالية اليوم هو «أن ينتهي بها الأمر مُتخلى عنها من قبل قطاعات مهمة من اليمين». وحتى في الولايات المتحدة، هناك مؤشرات مقلقة على أن التزام المحافظين بمعايير الديمقراطية الليبرالية بات تحت ضغط كبير.
فهذا عضو الكونجرس «الجمهوري»، النائب ستيف كينج من ولاية آيوا، يتبنى بفخر «القومية البيضاء». هذا بينما أثنى المعلق المحافظ «باتريك بوكانان» على بوتين باعتباره النموذج الذي ينبغي اتباعه بالنسبة ل«المحافظين والتقليديين والقوميين في كل القارات والبلدان». وعلى أعلى مستوى، أشاد الرئيس دونالد ترامب بالنازيين الجدد المحتجين، وألمح إلى استخدام العنف ضد أعدائه السياسيين، ودعا إلى إعادة النظر في القوانين التي تكبح سلطته وقدرته على التحرش بالمعارضة. ويحذر روبرت كاجان من مؤسسة بروكينجز، الذي كان لفترة طويلة مثقفاً محافظاً بارزاً، من أن هذا الاستياء من الديمقراطية الليبرالية موجود بوضوح بين المحافظين الأميركيين، وليس فقط بين «اليمين البديل».
التهمة هنا ليست هي أن السياسات المحافظة – مثل معارضة الهجرة غير القانونية – هي بمثابة رفض للديمقراطية الليبرالية، أو أن معاداة الديمقراطية الليبرالية أصبحت واسعة الانتشار بين المحافظين الأميركيين أو الأوروبيين. ولكن الموقف المتردد بشأن الديمقراطية الليبرالية أخذ ينتشر بشكل متزايد بين أحزاب يمين الوسط، وذاك الموقف المتردد له تداعيات عميقة بالنسبة للسياسة الخارجية.
ففي أوروبا، دعمت روسيا بوتين – من خلال المال والهجمات السيبرانية ووسائل أخرى –«التجمعَ الوطني» وأحزاباً أخرى من اليمين القومي. وبدورها، تؤيد تلك الأحزاب عموماً العودة إلى علاقات عادية مع بلد يتدخل باستمرار في الحياة السياسية الأوروبية وقسم اثنين من جيرانه منذ 2008. وبالمثل، لطالما أمل صناعُ السياسات الأميركيون في أن تصبح البرازيل حصناً من حصون النظام الدولي الليبرالي، غير أن وزير خارجية بولسونارو اقترح توحيد روسيا والولايات المتحدة والعالم المسيحي ضمن تحالف ضد هجوم الأيديولوجيا «الليبرالية» ما بعد الحداثية".
والحق أن سياسات إدارة ترامب الحالية تجاه روسيا كانت صدامية بسبب جهود الكونجرس ومسؤولين من التيار الوسطي الغالب داخل الإدارة الأميركية بشكل رئيس. ولكن ما يؤشر عليه كل هذا هو شيء يبعث على القلق إلى حد كبير: أنه على المدى الطويل، سيكون من الصعب على أميركا وحلفائها بكل تأكيد مقاومة التحدي السلطوي إذا ابتليت أنظمتهم السياسية بتعاطف متزايد مع الأفكار المعادية لليبرالية.

هال براندز*
*مؤرخ أميركي وأستاذ بكلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكينز الأميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»