حريق كنيسة نوتردام في فرنسا حدث مفجع وصدمة إنسانية كبرى لكل من يعرف قيمة الإنسان وتاريخه ومراحل تقدّمه وأهمية ذلك كله في بناء شخصيته وهويته وتعزيز واقعه ومستقبله، ولا غرو أن تحظى بكل الاهتمام العالمي الذي نالته لأنه مستحقٌ بكل المقاييس.
أحد مظاهر التحضر البشري عنايته بالتاريخ والآثار، وبناء المتاحف، والحفاظ على الموروث المادي وغير المادي، ولا خير في أمة لا تعتني بإرثها الثقافي والحضاري وتاريخها المجيد والعريق.
حافظت دولة الإمارات على آثارها وبذلت جهداً رائعاً في توثيقها وتثبيتها عبر عقودٍ من الزمن، قادتها رؤية الشيخ زايد وعنايته الخاصة واستمرت هذه الجهود من بعده، وهي مستمرةٌ وثابتةٌ، أثبتت قدم الحضارة في هذه الأرض لآلاف السنين.
ولكن الحال في المنطقة لم يكن بهذا الصفاء، فقد مرت عقودٌ من سيطرة خطاب جماعات الإسلام السياسي وجماعات التشدد والتطرف داخل المؤسسات الرسمية وخارجها في الكثير من الدول العربية والإسلامية، لم تكن ترى في هذه الآثار إلا مخالفاتٍ للدين باعتبارها أصناماً أو منحوتاتٍ يرفضها الإسلام وتحرّمها تعاليمه. والأمثلة حاضرةٌ فيما صنعته حركة «طالبان» بأفغانستان من تدمير تماثيل بوذا في باميان المعرقة في التاريخ في مطلع القرن الميلادي 2001 لا يختلف عن تكسير عناصر «داعش» بالمتفجرات وبالفؤوس لآثار تدمر التي تمتد لآلاف السنين في الحضارة البشرية، وهؤلاء الوحوش ليسوا نبتةً غريبةً ولا شذوذاً بل هم نتاج خطابات دينية متطرفة ودورهم هو تطبيق ما تعلموه وما تلقنوه من منظرين ومفتين صنعوا عقولهم المؤدلجة والمتوحشة. إن مهمة خلق خطابات دينية جديدةٍ هي ما تؤكده هذه النماذج، وأن بناء الإنسان المسلم المتسامح مهمةٌ كبرى، وإعادة تنقية الخطاب الثقافي مهمة ملحةٌ كذلك، فلا يمكن السكوت عن مثل هذه الهمجية أكثر مما مضى.
محبو المزايدات والمتعاطفون مع الخطابات المتطرفة يتساءلون اليوم بعد حريق كاتدرائية نوتردام باستخفاف عجيب: لماذا يهتمون بتلك الكنيسة ولا يهتمون بآثارنا وتاريخنا؟ والجواب واضح، نحن من نهدم آثارنا وتاريخنا بل وحاضرنا ومستقبلنا لصالح خطابات التطرف والإرهاب، نحن من سمح لهذه الخطابات بالتمدد والانتشار، نحن الذين تأخرنا في حسم معركتنا مع الأصولية والإرهاب، ولكن الوقت لم يفت بعد، ونستطيع الانطلاق نحو آفاقٍ حضاريةٍ جديدةٍ، والتخلص للأبد من تلك الخطابات المعيقة.
من المؤسف ملاحظة أن بعض وسائل الإعلام العربية الرصينة تنجرف خلف وسائل التواصل الاجتماعي والغوغائيين فيها وتعرض فاجعة حريق كاتدرائية نوتردام بأسئلةٍ سخيفةٍ فيها من المزايدة والتفاهة ما فيها، وكان ينبغي أن تكون قائدة لا تابعة في تشكيل الرأي العام، ولكنها بالفعل لحظة التفاهة الممنهجة في العالم. دخل صحابة الرسول الكريم العديد من البلدان في العالم العربي والإسلامي إبان فترة ما يعرف بالفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين، ولم يحطموا أي تماثيل أو آثارٍ، بل لقد مرّ الرسول الكريم نفسه بمدائن صالح، ولم يحطم شيئاً من آثارها ومنحوتاتها الأثرية المعرقة في القدم، كما عمل بعض كبار الفقهاء في النحت مثل الإمام القرافي، ولم يعرف عن أحد من الفرق الإسلامية اهتمامها بتكسير وتخريب الآثار القديمة حتى خرجت هذه المظاهر البشعة في عالمنا المعاصر.
إنْ كان مثل هذا الحريق يعلمنا شيئاً فهو يعلمنا أن نتحضر أكثر، وأن نعتني بآثارنا ونرعاها ونحميها لا كوجهاتٍ سياحية فقط، بل كإرثٍ حضاري لنا وللعالم أجمع، وأن القطيعة يجب أن تكون مع كل خطابات التطرف والتشدد والتخلف لا مع جماعات الإسلام السياسي فحسب.
ختاماً، معركتنا طويلة مع التطرف بكل أشكاله ويجب أن تأخذ مداها الزمني الذي تستحقه، ولا خيار سوى النصر.