العراق دولة غنية على مر التاريخ، فهي عملاق نفطي، وثاني منتج في أوبك بعد السعودية، إذ تجاوز إنتاجها 4,5 مليون برميل يومياً، ويقدر احتياطها المثبت بنحو 150 مليار برميل، ويشكل ثالث أكبر احتياطي في العالم، بعد السعودية وإيران، وفيها فرص واعدة للاستثمار، وجاذبة للمستثمرين، وقد أكدت السنوات الماضية قدرة العراقيين على التكيف مع التطورات الأمنية والسياسية. ولكن وضع العراق المالي والاقتصادي والاجتماعي، تدهور مع هدر المال العام، واحتلال «داعش» لمناطق واسعة، واستثمار مواردها، ونزوح عدد كبير من السكان، إضافة إلى هروب أموال إلى الخارج، وفساد واسع شمل مختلف مؤسسات الدولة، ما أفقد هذا البلد الغني ثقة العالم باقتصاده. ولذلك اضطرت حكومة بغداد للموافقة على شروط قاسية فرضها صندوق النقد الدولي، مقابل حصولها على قروض خارجية، وهي تمر بفترة اختبار لمدى التزامها بتنفيذ خطوات إصلاحية، تتلخص: بإصدار قانون للإدارة المالية، تقييد وزارة المال بأسس جديدة وإخضاع الديون الخارجية والداخلية للتدقيق، خفض النفقات، إدخال هيئة النزاهة كطرف فاعل في المتابعة المستقلة للإنفاق، اعتماد وثيقة الأمم المتحدة بمكافحة الفساد، تعديل قانون البنك المركزي، منع تهريب العملة، مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
على رغم أن الدولة «غنية» بنفطها، فهي «مدينة» بسبب عجزها المالي، وبحاجة للشفافية، وقد صادق رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، في الآونة الأخيرة على تشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، فضلاً عن رقابة مجلس النواب الذي يتعرض لضغوطات سياسية قوية لإصدار قانون عفو عن الفاسدين وعدم معاقبتهم، وإغفال استرداد الأموال المهدورة التي ساهمت بظهور الأغنياء الجدد الذين اغتنوا من المال العام وهربوا أموالهم إلى خارج البلاد.
لم يفاجأ خبراء صندوق النقد بتحول العراق من بلد يتمتع بفائض سيولة كبير، إلى بلد يعاني عجزاً مالياً ومتراكماً، ومديناً لمؤسسات التمويل الدولية، وشركات النفط، ولكن المفاجأة الأخطر التي توقف عندها الخبراء، هي مشكلة الفقر التي تعم مختلف المناطق، وتشمل أكثر من سبعة ملايين مواطن، بما يقترب من ربع السكان، وأن ثمة أربعة أشخاص فقراء بين كل عشرة نازحين، وأن حصة الفرد من الناتج الإجمالي، انخفضت من 7 آلاف دولار إلى 4 آلاف سنوياً. وتتفاوت نسب الفقر بين منطقة وأخرى، ففي الأنبار تبلغ 41 في المئة، وفي بغداد 13 في المئة، في حين لا تزيد في إقليم كردستان عن 5,12 في المئة. وأمام عجز القطاع العام، تهتم الحكومة حالياً بتنفيذ استراتيجية تقضي بتطوير القطاع الخاص لمعالجة هذه المشكلة، وتقوم وزارة التخطيط، بمشاركة مع البنك الدولي وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة اليونيسيف، بوضع استراتيجية وطنية للتخفيف من حدة الفقر، وتستهدف تحسين مستوى الدخل للفقراء، والصحة والسكن والرعاية الاجتماعية، ولكنها تواجه تحديات عدة، ما يتطلب توفير إرادة سياسية ومشاركة مجلس النواب والحكومات المحلية، إضافة إلى المنظمات الدولية، لدعم القطاع الخاص. مع العلم أن الشعب العراقي غني بدوره، إذ يبلغ النقد المتداول في الأسواق أكثر من 80 مليار دولار، لكن يبدو أن ضعف ثقة المواطن في قدرة دولته على الاستثمار «الشفاف» الناجح والمربح، يحول دون ذلك، حتى أن ثقة المواطن العراقي ضعيفة أيضاً بالقطاع المصرفي، ويلاحظ أن 77 في المئة من الكتلة النقدية، مخزنة لدى أصحابها بدلاً من أن تكون لدى المصارف، ما يستدعي الاهتمام بمعالجة الأسباب والتداعيات لهذا الواقع الذي يحد من نشاط القطاع المصرفي، كونه الذراع المالية للاقتصاد العراقي.