تعكس حرية التعبير مدى تحضر ورقي المجتمعات، وهي من الأمور الفارقة في تطور المجتمع المدني، ولها العديد من الفوائد على المستوى الكلي لتنمية المجتمع تنمية مستدامة، حيث تساهم الأفكار والمناقشات والحوارات المتبادلة في تعزيز الإبداع والابتكار والتعليم والتطور الثقافي في عالم اليوم المترابط، ومن جهة أخرى يمكن لحرية التعبير أن تتسبب في نزاعات، تؤدي إلى تحويل الاختلاف إلى خلاف، وقد تصل تداعيات عدم المرونة في سماع الآخر وامتلاك وجهة نظر مغايرة إلى حد إشعال الفتن المختلفة.
وقد يكون ضيق الأفق وعدم التسامح من الصفات التي تستغلها الجماعات المتطرفة لنشر أيديولوجياتها وتجييش أفراد المجتمع والقوى المؤثرة فيه. كما تلعب حرية التعبير والرأي دوراً مهماً ومحورياً في نشر قيم التسامح والقبول بالآخر، وتفنيد ونقد الفكر بصوة إيجابية على أسس علمية لا تبنى على العاطفة والمفاهيم المتواترة والإجماع بعيداً عن الموضوعية في الطرح، وذلك تجنباً للاشتباكات الإيديولوجية حول حرية التعبير.
وعند مناقشة الاستثناءات وحدود حرية التعبير، فإن الخطاب الوحيد الذي يجب أن نمنعه، هو الذي يتسبب في ضرر مباشر للآخرين، ومن خلال السماح للناس بالتعبير عن آرائهم، حتى أولئك الذين نجدهم غير أخلاقيين، يمنح المجتمع نفسه أفضل فرصة للتعلم.
وعلينا ألا نخلط بين حرية التعبير والحق الأخلاقي وإثارة الكراهية في عبور خط حرية التعبير، وتحول خطاب الشخص إلى خطاب غير مسؤول، وألا يكون الرأي معادياً وفيه استهزاء وتحقير مهين بقصد الإساءة للدين أو الهوية والعرق والجنس أو الثقافة أو المجتمع والإرث الحضاري لمجموعة بشرية ما، ويجب على الخطاب أو التعبير في الرأي أن يعزز الحوار، على الرغم من أن الأطراف قد تختلف، وأن يكون القصد من الكلام المسؤول هو التوضيح والبناء، وليس التشويه والهدم، حيث قد يكون الرأي مقبولاً من الناحية القانونية، لكن هذا لا يجعله صحيحاً من الناحية الأخلاقية.
فإذا أسكتنا الآراء المخالفة، فإنه يفترض أن لدينا بالفعل الرأي الصحيح، وإننا واثقون بأننا على صواب مطلق وما نعتقد به يملك العصمة من الخطأ. وإذا فعلنا ذلك فإننا هنا نقول بكل غرور، وندعي بأن رأينا أو صاحب الرأي أو الفكر أو المنتج بغض النظر عنه كان أدبياً أو علمياً أو دينياً غير قابل للخطأ والنقاش، وهو كامل والكمال صفة لرب العالمين يجب أن لا نقبل أن ينازعه فيها بشر مهما كانت مكانته ومقدراته، ولذلك يجب احترام وقبول حدود معرفتنا كبشر وعدم تقديس غير المقدس، وألا نفرض قدسيته على الآخرين، والسماح للآخرين بالتعبير عن آرائهم حتى لو كنا لا نحب ما يقولونه وندين وجهات نظرهم.
فعندما يهز الرأي المخالف معتقدات راسخة في ذهن الآخر، ويصل لدرجة التهميش الجزئي لما يعتبر غير قابل للطعن والنقد تنصب مشانق الرأي لصاحبه ! ويتم تداول فرضيات بأن له تأثيرات ضارة على التماسك الاجتماعي لأنه يضع المتلقي في حالة دفاع وتساؤل دائم لما يعتبره من الثوابت لديه ويمثل جزءاً مهماً من هويته وانتماءه لمجتمعه ويرى البعض أننا نقع ضحايا للرأي الذي يكون خطاباً إقصائياً شبه رسمياً يجعلنا نظهر مشاعرنا السلبية حيال شخص أو قضية ما ونعتبر الخوض فيها إساءة مباشرة تمسنا كأفراد ومجتمع، مما يجعلنا نتساءل هل نعطي حرية التعبير الأولوية فوق الانسجام أم أن هناك ثمناً باهظاَ للحرية العقلية الفاحصة والناقدة للمعرفة المتوارثة والخلط لربما بين ازدواجية صاحب الرأي والرأي محل النقاش؟
فمن المفيد تضمين أفكار علم الأخلاق والمنطق والفضيلة في تفكيرنا كمجتمع وكيف يمكن للشخص الحكيم استخدام سلاح حرية التعبير ولا سيما في خضم وجود الصراع بين الحرية والسيطرة وعدم الرغبة في التغيير والثبات على ما نجزم بصحته دون أن نتعلم من التاريخ أن سر تقدم أو تراجع الشعوب والحضارات يكمن في عدم سلب الناس حقهم في التعبير وقبول النقد ليس من أجل النقد ولكن من أجل تمحيص المعرفة، والإيمان بأن الثابت والمتغير هو حالة ذهنية وليس موقفاً مادياً فقط، حيث إن التغيير هو الوحيد غير القابل للتغير، والديناميكية هي سر الحياة، وفي المقابل لا يوجد أي ضمان على الإطلاق بأن حرية التعبير تكفل التطور للأفضل، وبمثابة تحسن وتقدم للأمام، ولكن كل ذلك لا يعني أن نسلب الأشخاص حق التفكير الفردي في بعض الأمور التي يصر الغالبية على أن تُأخذ كما هي، ويعتبر التفكير فيها جريمة يعاقب فيها العقل.