المنافسة الكبيرة والاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين سيكسبها من يسيطر على القواعد والأنظمة التي تحكم التجارة والاتصالات والأمن في القرن الحادي والعشرين. وواشنطن ما عاد يمكنها تجاهل أن الصين متقدمة جداً في التكنولوجيا الأساسية التي وراء هذه الأنظمة، ألا وهي: «البلوك تشين». والتي يمكن تعريفها بأنها قواعد بيانات تتميز بأنَّها تستطيع إدارة عدد غير نهائي من البيانات، فهي عبارةٌ عن سجل إلكتروني يسجل المعاملات والصفقات ويقوم بإدارتها.
الشهر الماضي، نشرت إدارة ترامب أخيراً خطة أميركية واسعة لتطوير الذكاء الاصطناعي. غير أنه لا توجد أي استراتيجية حكومية أميركية خاصة بـ«البلوك تشين». وفي الأثناء، شرعت الحكومة الصينية في تنفيذ خطتها الخاصة بـ«البلوك تشين» منذ بعض الوقت. وفي هذا السياق، قال الرئيس الصيني «شي جين بينغ» للأكاديمية الصينية للعلوم في مايو الماضي: «منذ بداية القرن الحادي والعشرين، أخذ جيل جديد من الثورة الصناعية يعيد تشكيل البنية الاقتصادية العالمية بشكل مهم»، بناء على الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء و«البلوك تشين».
وكثيراً ما يوصف «البلوك تشين» بأنه «دفتر أو سجل حسابات مقسم مفتوح يسجل الصفقات بين الأطراف بفعالية وبطريقة دائمة وقابلة للتحقق». إنه تكنولوجيا أساسية لـ«ويب 3.0» (أو الجيل الثالث من الويب)، وهي البنية التحتية للجيل المقبل من الترابط عبر الإنترنت. وبالنسبة للمجتمعات الغربية، تُعتبر «البلوك تشين» تكنولوجيا من شأنها إحداث تحول كبير كونها تستخدم لتوزيع السلطة، والتي تستطيع بدورها دعم حكم القانون، ومحاربة الفساد والجريمة، وحماية الهوية الرقمية والخصوصية.
غير أن تلك ليست هي الطريقة التي تنظر بها بكين إلى «البلوك تشين». فإذا استطاعت الصين أن تكون الأولى وتنشئ نظام «بلوك تشين» خاضع لسيطرتها، مثل شبكة إنترنت خاصة بها تتحكم فيها الدولة، ستكون بكين قادرة على استخدام التكنولوجيا لتوسيع نفوذها.
وتقوم استراتيجية الحكومة الصينية الخاصة بـ«البلوك تشين» على الاستثمار بشكل كبير في تطوير «البلوك تشين» وابتكاره وتطبيقه. ويُعد تطوير «البلوك تشين» جزءاً من «المخطط الخماسي الثالث عشر» للصين. وقد استثمرت الحكومة الصينية المليارات في شراكات «البلوك تشين» مع شركات صينية. وخلال 2017، سجلت الصين براءات اختراع تتعلق خاصة بـ«البلوك تشين» أكثر من أي بلد آخر. والعام الماضي، وقع «بنك التنمية الصيني» مذكرة تفاهم حول التعاون في البحوث المتعلقة بـ«البلوك تشين» مع كل من البرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا.
وعلى مستوى الحكومات المحلية، تطبّق الصين تكنولوجيا «البلوك تشين» حالياً في إدارة سلسلة الإمداد، وجباية الضرائب، وسلامة الأغذية والأدوية، وغير ذلك. ومثلما أفادت مجلة «ناشيونال إنترست»، فإن جيش التحرير الشعبي الصيني بدأ العمل على كيفية استخدام «البلوك تشين» كسلاح في هجمات «المنطقة الرمادية»، أي الحرب السيبرانية وحرب المعلومات.
وعلاوة على ذلك، تقوم بكين حالياً بانتهاك خصوصية مستخدمي «البلوك تشين» وقمع حريتهم في التعبير. ففي يناير الماضي، أصدرت الحكومة الصينية قوانين تنظيمية تفرض على شركات «البلوك تشين» جمع بيانات المستخدمين الخاصة، وجعلت تلك البيانات متاحة للسلطات، وفرضت الرقابة على محتوى المستخدمين. وقد أفادت صحيفة «ذا ساوث تشاينا مورنينج بوست» بأن ذلك قد يكون رداً على نشر امرأة صينية لرسالة مفتوحة تزعم فيها تعرضها للتحرش الجنسي في جامعتها على «البلوك تشين» بعد أن كانت ضحية للرقابة على وسائل تواصل اجتماعي.
ويحذّر الخبراء من أن الحكومة الصينية لا تكتفي بتقنين «البلوك تشين» من أجل القمع الداخلي فحسب، بل تستثمر مبالغ ضخمة من المال والوقت في تطوير تكنولوجيات «البلوك تشين» التي يمكن أن تستخدم في تعزيز التأثير الصيني في الخارج. وإذا كانت لدى الغربيين رؤية لشبكة «ويب 3.0» قائمة على «البلوك تشين» كنظام مفتوح، فإن الصين تستطيع أن تنشئ «بلوك تشين» مغلقة تسيطر عليها وتوظّفها لأهدافها الخاصة.
والحاصل أن الولايات المتحدة متأخرة جداً في هذا المجال، إلا أنه لم يفت الأوان بعد. وقد أصدرت غرفة التجارة الرقمية الشهر الماضي «مخططَ عمل وطني للبلوك تشين»، وهو عبارة عن دعوة للحكومة الأميركية من أجل العمل والتحرك. ومما جاء في الورقة أن على إدارة ترامب أن تنتقل من مقاربة مبنية على التقنين والتنظيم إلى مقاربة تدعم ابتكار تكنولوجيا «البلوك تشين» وتطويرها من خلال استراتيجية منسقة بين الوكالات الحكومية المختلفة.
ذلك أنه إذا استطاعت الحكومة الصينية السيطرة على الطريقة التي تطوَّر بها تكنولوجيا «البلوك تشين» وتُحكم، فإن ذلك سيشكّل تهديداً خطيراً وطويل المدى بالنسبة للأمن القومي الأميركي والأمن الاقتصادي الدولي.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»