ما جرى من انتخابات رئاسية وجهوية في نيجيريا والسنغال، خلال الأسبوع الأخير من فبراير 2019 وما رافقها من شهادات ملحوظة عن نزاهتها، وتوفيرها نتائج ديمقراطية معقولة، جعل نخبة المراقبين من الداخل والخارج يشهدون أن الحالة الأفريقية تحرز تقدماً ملحوظاً في المجال الديمقراطي، رغم وجود الانحرافات بالطبع. لكن ذلك أيضا جعل مراقبين آخرين يتحسرون على حالات عربية أفريقية، لا يتقدم فيها الموقف الديمقراطي.
ونحتاج إلى أن تكون وقفتنا الآن عند الحالة النيجيرية، التي كانت مقدماتها توحي بخطر الصراع إزاء مرض الرئيس المنتخب لمدة طويلة، ولكنه عاد إلى بلاده سليما معافى يستمتع بشعبيته. لكن اشتداد الأحقاد وخشونة التعامل وسط الطبقة السياسية، ونخبة المال، ومؤسسة الفساد، كانت هي التي تشكل الخطر على العملية الديمقراطية التي أتاحها الجنرال «بوخاري» وفي رأي مفكر نيجيري كبير مثل «جبرين ابراهيم والذي يرأس معهد الدراسات الديمقراطية أن الانتخابات مهما قيل عنها تعتبر بعيدة عن تهمة التزوير أو الضغوط . وكان في أحد كتبه، وهي عديدة في مجال الفكر السياسي، قد تحدث عن «توسيع هامش أو فضاء الديمقراطية في نيجيريا»، نشره المجلس الأفريقي – كوديسريا 1997، وهو الذي نبهنا مبكراً أن نيجيريا رغم حكم العسكر طويلاً (حوالى ثلاثين عاما) كانت دائمة البحث عن توسيع دائرة وأدوار العمل المدني الديمقراطي، ثم ها هو يعود إلى كتاباته وبعض مقالاته، وأحدثها في الثاني من مارس الحالي، مثبتاً مع غيره بانحسار دور العسكريين. كما أن الشباب شكَّل كثير منهم كوادر لدى الحزبين الكبيرين في البلاد مما جعل التوازن محفوظاً في الانتخابات الأخيرة، لأن من تنافسوا فيها هما حزب «مؤتمر كل الشعب» APC -(بوخاري)، وحزب «الشعب الديمقراطي PDP»، أما بقية العشرين حزباً فلم تحظى بالكثير. وقدم الكتاب بسرعة عديداً من الملاحظات على ديمقراطية ما جرى بقدر كبير من الشفافية. فالحزبان تنافسا على حوالى 36% من الناخبين (84 مليونا)، ليحصل «بوخاري» على 15 مليون صوت بنسبة 55% في 19 ولاية، ومنافسه «ايتيكو أبو بكر» على 11 مليونا 41% في 17 ولاية، وأحزاب عديدة معا على بضعة آلاف.
وبالنسبة لمقاعد نواب الجمعية الوطنية حصد حزب «المؤتمر» الفائز على 190 مقعداً، والحزب الآخر على 151 مقعداً ثم 19لبقية الأحزاب. من هنا يستنتج المحللون أن المعركة مضت في أمان ووفق توافق شعبي مفهوم. وليس معنى ذلك اختفاء قوة العامل العرقي والديني في المنطقة، لكنه يشير ضمنا إلى أهمية ومهارة الكادر الحزبي عند المتنافسين بدلالات تساق عن اختراق «بوخاري» لمنطقة الغرب رغم أنه من «سوكوتو»، وحصد الكثير من «كانو» و«كادونا»، بل وأكثر من 80% في «بورنو» عاصمة الإرهاب إنْ صح التعبير. كذلك فعل منافسه القادم بقوة من الشرق ليخترق مناطق في الشمال، بل ويحصل من العاصمة «أبوجا» مقر الرئاسة الحاكمة على 229 ألف صوت مقابل 85 ألف صوت فقط «لبوخاري».
وفي تقديري، بعد هذه التحليلات الأولية، أن ثمة فضاء مدنياً واسعاً تم التعامل فيه برفق، كما أن هناك مكانة دائمة للكتاب والصحفيين والمعلمين والطبقة العاملة، والمحافظة على توازن الهوسا والفولا في الشمال و«الإيبو» و«أجبو» في الجنوب، كما المحافظة على المسيحية والإسلام في أشكال مدنية رغم ما جرى ضد الكنائس في «زاريا» (وسط) وغيرها، مما جعل فترة محدودة من الحكم المدني (من 2007) تأتي بنتائج مبهرة تحجم تأثير ثلاثين عاما متناثرة من حكم العسكريين. ولعل رموز العسكريين الكبار مثل (أوباسانجو) غرب، و(بابا نجيدا) شرق وقدرتهم على تحجيم التنافسات الحادة أحياناً أو الفساد وآثاره السلبية (جودلك) أو «إبراهيم آباشا» أحيانا أخرى، مما ضبط سلوك العسكريين الذين شغلوا أيضاً بدور نيجيريا العسكري الإقليمي في ليبيريا وساحل العاج وسيراليون، والسودان، والكونغو، بل ويمتد نفوذها السياسي والاقتصادي في منظمة «إيكواس»، وفي معظم المجالات بالتعاون مع جنوب أفريقيا أحياناً. وقد يضاف إلى ذلك نجاحهم بدرجة كبيرة في القضاء على تنظيم «بوكو حرام» وتخريبه. وقد يكون كل ذلك مع مساهمتهم في ظاهرة النهب والفساد من ثروة البترول، قد وضعتهم في حرج مع الجماهير التي تضغط بشكل معقول عبر مجتمع مدني وقوى ديمقراطية لا تهدأ.