لا تبدي فاطمة انفعالاً كثيراً وهي تحكي لنا كيف كانت قاب قوسين أو أدنى من قتل ابنها. هذه النيجيرية الشابة البالغة 18 سنة، بحجابها الأسود الذي يزيد سواد عينيها الداكنتين، دكنة فتاة جميلة ومحبوبة، وإن كانت الندوب المحفورة على الجانب الأيسر من وجهها وعنقها وجسمها –وقد اكتسبتها لدى محاولتها الفرار من جماعة «بوكو حرام» الإرهابية في شمال شرق نيجيريا– توحي بفظاعات كبيرة.
تقول بنبرة ناعمة عن ابنها محمد: «لم أحب الولد مطلقاً»، مضيفة: «لم أكن أرغب في أي اتصال بصري معه أو حتى رؤيته. حاولتُ قتله، حاولت تسميمه. لكن لابد أن العناية الإلهية تدخلت، لأن الناس ما كانوا ليمنعونني من ذلك».
كانت فاطمة هادئة ولا تبدي كبير انفعال خلال الساعات الطوال التي حدثتنا فيها عن محنتها. كنا نجلس على حصيرة على الأرض المغبرة في خيمة في الهواء الطلق ذات يوم قائظ بمخيم «كاسي» للنازحين في مايدوغوري، عاصمة ولاية بورنو موطن «بوكو حرام». لكن عندما يُحضر أحدٌ محمد (4 سنوات) من المدرسة، تتهلل أسارير وجهها وترتسم على محياها ابتسامة عريضة. تضحك وهي تداعبه وتلاعبه، ويضحك هو بفرح الأطفال. «لا أريد أن يفصل بيننا أي شيء»، هكذا قالت لي من خلال مترجم.
فاطمة واحدة من قصص النجاح القليلة ضمن الجهود الفتية لمساعدة الفتيات والشابات اللاتي اختُطفن من قبل «بوكو حرام» على التعافي والعودة إلى عائلاتهن ومجتمعاتهن في شمال شرق نيجيريا. وتُعد هذه المبادرات أساسية لإنقاذ ما يمكن أن يكون جيلاً ضائعاً من الشابات والأطفال، ولإرساء استقرار المجتمعات التي ما زالت تكافح من أجل التغلب على الحرب في أكبر بلد أفريقي من حيث عدد السكان.
هذه ليست القصة التي كانت خلف وسم #أعيدوا لنا بناتنا، قصة مئات الطالبات النيجيريات من مدينة شيبوك اللاتي اختُطفن من قبل «بوكو حرام»، واللاتي أثار اختطافهن حملة تضامن دولي واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي من أجل إنقاذهن، بل قصة آلاف الفتيات الأخريات وأطفالهن الذين وُلدوا نتيجة عنف جنسي (مثل محمد)، والذين لم يستأثر اختطافهن باهتمام كبير من قبل وسائل الإعلام، واللاتي لا أحد يرحب بعودتهن في كثير من الأحيان.
الكثيرون يعتبرون الأطفال ضائعين على نحو لا يمكن إصلاحه بسبب «الدم الخبيث» لآبائهم، والذي يجري في عروقهم، ويرون أن مصيرهم أن يصبحوا مقاتلين في صفوف «بوكو حرام» أيضاً، وذلك على اعتبار أن «ابن الثعبان ثعبان»، كما يقول المثل الشعبي هنا. لكن بالنسبة لفاطمة (التي لم نرد نشر اسمها العائلي خوفاً على سلامتها) وأمهات أخريات، يمكن أن يمثّل أطفالهن تذكيراً قاسياً بالعنف الذي تعرضن له ومصدر تمييز إضافي ضدهن. ولهذا حاولت بعضهن إجهاض ما في بطونهن.
الأمهات المراهقات من ضحايا «بوكو حرام»، يُرفَضن ويُنبذن من قبل آبائهن أو أزواجهن ويُرغمن على العيش في عزلة في المخيمات القذرة التي تكاثرت كالفطر حول مايدوغوري. وعلاوة على الوصمة التي باتت تصم ضحايا العنف الجنسي في هذا المجتمع التقليدي الأبوي، تواجه الناجيات عبئاً إضافياً. ذلك أن الكثير من الأشخاص يخشون أن تكون «زوجات بوكو حرام»، مثلما يُطلق عليهن ازدراء، قد نهلن من أيديولوجيا التطرف وتشبعن بها أثناء الفترة التي عشنها لدى الجماعة الإرهابية، وأن يكن جاسوسات يشتغلن لحساب المتمردين، أو أنهن قد يقمن بقتلهم.. وهي مخاوف تؤججها ممارسات «بوكو حرام» التي لا تتورع أحياناً عن استخدام فتيات كانتحاريات.
سيندي تشونغونغ، مديرة فرع منظمة «إنترناشيونال ألورت» في نيجيريا، وهي واحدة من بين مجموعة صغيرة من المنظمات غير الربحية التي تعمل إلى جانب منظمة «اليونيسيف» من أجل إعادة إدماج الضحايا في المجتمع، تقول إنه من الممكن تفهم تخوفات الناس. فقد عانى الناس هنا كثيراً على أيدي «بوكو حرام». إذ شاهد الكثيرون أفراد عائلاتهم وجيرانهم يُقتلون، وماشيتهم تُسرق، ومحاصيلهم تُتلف وتُدمر. ومع ذلك، «لا شك أنه شيء صادم بالنسبة لأولئك الفتيات والنساء أن يتعرضن للرفض والنبذ، وخاصة إن كن تعرضن للاغتصاب ويجدن صعوبة في قبول الطفل»، كما تقول تشونغونغ، مضيفة: «إنه أمر محزن للغاية».
معاناتهن جزء من الكابوس الجماعي الذي استولى على شمال شرق نيجيريا لعقد من الزمن، وقد تأثر به الجميع تقريباً. لكن الأمر غير المألوف بشأن الأزمة هو أن بعضاً من أقسى وأشد تأثيراتها «نفسي»، كما يقول فيرجل أوكونل، الذي يترأس برنامج منظمة «لجنة الإنقاذ الدولية» غير الربحية في نيجيريا، ويقول: «إنه لا يمكن التقليل من عمق وحجم الصدمة على المستوى الفردي أو على مستوى المجتمع». وعن الفتيات والنساء اللاتي عدن من «بوكو حرام»، يضيف أوكونل: «إنها صدمة فوق صدمة».
اليوم، فاطمة واحدةٌ من عدد صغير من قصص النجاح ضمن الجهود الرامية لمساعدة النساء على التعافي وإعادة الاندماج في المجتمع. لكن ليس كل المشاركات يفلحن في التغير. بل إن معظمهن لا ينجحن. فبعض الأزواج أو العائلات لا يقبلن زوجاتهم أو بناتهم العائدات. لكن بالنسبة لأخريات، تمثّل المنظمات فضاءً مقبولاً من أجل التعافي، ونسج صداقات جديدة، والتقدم نحو المستقبل.
وتقول الطبيبة النفسية في المخيم بايشنس شيكسون عن فاطمة: «إنها امرأة قوية جداً وسيدة صلبة، لأنها كانت في الجحيم، لكنها تمكنت من النجاة والصمود».
ليزلي روبرتس*
*مراسل صحفي متجول في أفريقيا
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»