يبدو قرار إدارة ترامب بالانسحاب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى (INF) التي أبرمت عام 1987 بعد عقد من الانتهاكات الروسية مرضياً وعادلاً – فهم يغشّون، ونحن نتوقف عن اللعب. ولكن هل هذا هو أفضل خيار لدينا؟ إن انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة سيترك المنشآت العسكرية الأميركية أكثر عرضة للابتزاز النووي الروسي، على الأقل حتى نتمكن من تطوير ونشر أنظمتنا لردع موسكو. وبدلاً من تمزيق المعاهدة التي تجعل الانتشار الروسي غير قانوني، يتعين على الولايات المتحدة أن تفعل مثلما فعل الرئيس رونالد ريجان في ثمانينيات القرن الماضي. ينبغي أن نكسب وقتاً من خلال المفاوضات لتطوير ونشر إجراءاتنا المضادة في أوروبا، بينما نقدم لموسكو معاهدة تلبي احتياجاتنا الأمنية المشتركة: مواجهة التهديد الصاروخي المتزايد من الصين والذي لم تتنبأ به معاهدة INF.
في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، دعّم الحلفاء الأوروبيون طلب ريجان باستضافة صواريخ «بيرشينج 2» متوسطة المدى على أراضيهم لمواجهة صواريخ «إس إس -20» السوفييتية. ولم تحظ هذه الخطوة بشعبية على نطاق واسع، حيث قام أكثر من مليون ألماني من ألمانيا الغربية آنذاك باحتجاجات في الشوارع. ولكن، سرعان ما جلبت صواريخ «بيرشينج 2» موسكو إلى طاولة المفاوضات. وألزمت معاهدة INF التي تمخضت عنها المفاوضات الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بالقضاء على كل صواريخ «كروز» الجوالة التي يتراوح مداها ما بين 310 إلى 3500 ميل، وحظرت نشرها في المستقبل من قبل موسكو أو واشنطن في أي مكان من العالم.
ولكن، بعد مرور 20 عاماً فقط، كان لروسيا الثائرة تحت قيادة فلاديمير بوتين رأي آخر. وبحلول عام 2007، كان بوتين يدفع الرئيس جورج دبليو بوش لإعادة التفكير في معاهدة INF، مستشهداً بالتهديد الذي تشكله الأسلحة التقليدية الأميركية المتفوقة على روسيا وكذلك البراعة النووية المتنامية للصين وإيران وكوريا الشمالية والهند. وفي يونيو 2013، أعلن بوتين أسفاً أن «جميع جيراننا تقريباً» كانوا يطورون أسلحة نووية متوسطة المدى. وبحلول ذلك الوقت، كانت موسكو تطور سراً الصاروخ 9M729 –وهو صاروخ كروز نووي يمكن أن يهدد وارسو أو باريس أو برلين – لمدة خمس سنوات.
وجاءت إدارة ترامب إلى السلطة، وهي متفقة مع بوتين بشأن قيود معاهدة INF. واستغلت بكين، وهي ليست ملتزمة بالمعاهدة، السنوات المتخللة لبناء برنامج صواريخها متوسطة المدى، وتطوير قدرة متنامية لتهديد القواعد والحلفاء الأميركيين في آسيا. وحالياً، تعتمد الولايات المتحدة على تفوقها التقليدي أو التهديد بضربة نووية مضادة بعيدة المدى على الصينيين للتحقق من قدرات بكين. ومع ذلك، فإن واشنطن، التي تحررت من قيود معاهدة INF، يمكن أن تطلب من جيران الصين استضافة أنظمة نووية أرضية متوسطة المدى، ما يمنح موقفنا الرادع مزيداً من المرونة والمصداقية.
ولذلك، رأت الإدارة إنهاء معاهدة INF باعتباره مفيداً للطرفين: حيث ستتلقى موسكو اللوم لانتهاكها المعاهدة، بينما ستكون الولايات المتحدة حرة في بناء أسلحة نووية متوسطة المدى لردع الصين. ولكن ماذا عن أوروبا؟ إن روسيا تسبقنا بعشر سنوات في تطوير أسلحة نووية متوسطة المدى ومحدودة التأثير. ومن شأن زوال المعاهدة إضفاء شرعية على اعتماد موسكو الكبير على هذه الأسلحة، والسماح بنشرها علناً وجعل تهديد استخدامها شبه مؤكد في أي نزاعات عالية الخطورة في أوروبا.

ويؤكد بعض المدافعين عن الإدارة الأميركية الحالية أن الهيمنة التقليدية للولايات المتحدة على قوة «الناتو» النووية الجوية والبحرية من شأنها أن تردع موسكو عن استخدام صواريخ متوسطة المدى، وفي السنوات القليلة القادمة، نحن مستعدون لتطوير أسلحة نووية جديدة محدودة التأثير ومزيد من أنظمة الدفاع الصاروخي لتحييد أي تهديد من الكرملين. ومع ذلك، فإن هجوماً روسياً مفاجئاً على دول البلطيق أو بولندا سيكون أصعب بكثير بالنسبة لقوات «الناتو» أن تتراجع إذا كانت موسكو لديها القدرة على تهديد برلين ووارسو وباريس بضربة نووية محدودة. وقد تأخذ موسكو هذه المقامرة إذا اعتبرت أن الولايات المتحدة و«الناتو»، مع عدم وجود خيارات محدودة مضادة لضربات نووية خاصة بهما، من غير المحتمل أو ليس لديهما الرغبة في إطلاق ضربة نووية ضخمة عالية التأثير على روسيا كرد فعل.

وبالنظر لهذه الخيارات القبيحة، من المنطقي بالنسبة لنا أن نستثمر قدراً أكثر قليلاً من القوة الدبلوماسية والوقت لإبعاد روسيا عن النشاط النووي متوسط المدى في أوروبا، وأن نقترح بدلاً من ذلك صفقة كبرى لردع الصين. وبدلاً من التخلي عن معاهدة INF، يمكننا أن نعرض مراجعتها لتنطبق فقط على الكتلة الأرضية الأوروبية غرب جبال الأورال. وسيُسمح لروسيا بنشر صواريخها من طراز 9M729 خارج نطاق حلفائنا الأوروبيين أو الآسيويين، وأن تكون خاضعة لرقابة بشرية وتقنية صارمة للغاية.
ونحن، بدورنا، لن ننشر أنظمة صواريخ نووية جوالة متوسطة المدى على أراضي «الناتو»، وسنسمح لروسيا بالتفتيش المتبادل على عمليات النشر التي نقوم بها لردع الصين. وهذا النوع من التحقق العدواني سيكون من الصعب التفاوض عليه وتحديه من الناحية الفنية. ومع ذلك، فإنه سيتيح لموسكو فرصة إثبات أن أنظمتها الجديدة لا تشكل تهديداً لأوروبا، وأن تنضم إلينا في ردع التهديدات المشتركة في أماكن أخرى. فإذا فشلت موسكو في الوفاء بهذا الاختبار، فلن نكون أسوأ حالاً مما نحن عليه اليوم. وكما كان الحال مع ريجان، سنكون قد كسبنا بعض الوقت لتعزيز الردع الخاص بنا، بما في ذلك إقناع حلفائنا باستضافة نظم هجومية ودفاعية جديدة، إذا لزم الأمر. وهذا، بدوره، سيجبر الكرملين، وربما بكين، على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
*مساعدة وزير الخارجية الأميركية السابقة للشؤون الأوروبية والآسيوية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»