في سياق الخلاف السياسي والصراع الاقتصادي بين موسكو وواشنطن، تشهد العلاقات الدولية حالياً تطورات ينتظر أن تساهم في إحداث تغييرات «جيوبوليتيكية» مرتقبة، في ضوء نتائج تداعيات ثورات «الربيع العربي»، بما فيها الثورة السورية وما نتج عنها من تقاطع مصالح، إقليمياً ودولياً، وكذلك الثورة المصرية بمرحلتيها الأولى والثانية، مع الأخذ بالاعتبار أهمية سيطرة روسيا السياسية والعسكرية لسنوات طويلة قادمة، والتوسع في استثماراتها في منطقة الشرق الأوسط، وهي الأغنى في العالم، لتقوية نفوذها وضمان مصالحها، تمهيداً للعب دور مستقبلي مؤثر وفاعل في مسيرة الاقتصاد العالمي الجديد.
في 31 يناير الماضي، نشرت الجريدة الرسمية المصرية، قرار الرئيس عبدالفتاح السيسي رقم 420 لسنة 2018، بالموافقة على اتفاقية بين حكومتي مصر وروسيا بشأن إنشاء وتشغيل المنطقة الصناعية الروسية في قناة السويس، على مساحة 5,25 كيلومتر مربع، وباستثمار 6,9 مليار دولار، وتنفذ على ثلاث مراحل، خلال 13 سنة، بدءاً من العام الحالي، وبتمويل من الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة، وعدد من البنوك المصرية. ويعد هذا الإنجاز من أهم «ثمار» التعاون بين القاهرة وموسكو، ونتيجة جهود أكثر من أربع سنوات ونصف السنة، بناء لاقتراح من الرئيس السيسي خلال زيارته لمدينة سوتشي في أغسطس 2014، وهو يمثل نقلة نوعية في مستوى العلاقات الإستراتيجية، ويجعل من مصر محور ارتكاز لانطلاق المنتجات الروسية إلى الأسواق العربية والأفريقية، مستفيدة من إعفاءات جمركية كونها من منشأ مصري، ويوفر للشركات المستثمرة نافذة تطل على ساحل المتوسط، وتعد واجهة عالمية للتبادل التجاري المباشر.
إضافة إلى هذا المشروع الذي أخذ طريقه نحو التنفيذ، هناك مشروع آخر، يأتي في إطار الاستثمار «الإستراتيجي» الذي تركز عليه روسيا لضمان مصالحها ونفوذها في المنطقة، ويتضمن محطة للطاقة النووية في الضبعة، والذي تم إطلاقه في ديسمبر2017، وحدد البدء في بنائه عام 2020، وتبلغ تكلفته 29 مليار دولار، يمول الجانب الروسي منها 25 مليار دولار، على شكل قرض بفائدة سنوية 3 في المئة، مقابل نحو 4 مليارات، مساهمة الجانب المصري، وكذلك هناك عدة مشاريع للنفط والغاز، منها مساهمة شركة «روس نفط» بنسبة 30 في المئة من حقل الغاز «ظهر»، الذي يعد الأكبر في المتوسط وتقدر احتياطاته بنحو 850 مليار متر مكعب.
وهكذا، مع التوسع في الاستثمارات المالية والصناعية والاقتصادية، وكذلك الاتفاقات العسكرية، بين القاهرة وموسكو، تستعيد روسيا لحظات التعاون الاستراتيجي الذي سجله الاتحاد السوفييتي في المنطقة منذ حوالي 60 سنة مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي اتجه شرقاً بعد ما خذلته واشنطن في التسليح وبناء السد العالي في الخمسينات. غير أن هذا التعاون لم يستمر طويلاً عندما أقدم الرئيس الراحل أنور السادات على طرد السوفييت عام 1973، بعدما اعتبر أن كل أوراق اللعبة في واشنطن، والتي استمرت نحو 40 سنة. واليوم التاريخ يعيد نفسه، حيث تشهد مصر حالياً استعادة موسكو علاقاتها المميزة معها، والتي تفتح لها الأبواب على مصراعيها لاستثمار نفوذها في المنطقة، وإعادة توطيد علاقاتها مجدداً مع القارة الأفريقية، والتي سبق أن تراجعت كثيراً منذ تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991. وعلى رغم محدودية قدرتها المالية لتكرار نجاح تجربة الاتحاد السوفييتي سابقاً، فإن موسكو تعتمد «دبلوماسية الطاقة الإستراتيجية» وقوتها الناعمة، في مساعي العودة، على أمل أن تتلاقى مع مساعي حثيثة للأفريقيين في البحث عن شركاء إستراتيجيين جدد، في ظل تغيرات ديناميكية جيوسياسية مرتقبة، خصوصاً أن أفريقيا منطقة «واعدة استثمارياً» ويتوقع تنامي قدراتها ليصل ناتجها المحلي الإجمالي إلى تريليوني دولار عام 2050.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية