في معظم الأحيان، لا تنظر دول أميركا اللاتينية إلى العالم بالطريقة نفسها. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن التنديد المتزايد بحالة الطوارئ المتسارعة في فنزويلا، متبوعاً بالاعتراف بضرورة رحيل الرئيس نيكولاس مادورو الذي ضعفت قبضته على الحكم، كان لافتاً للأنظار.
عدد قليل فقط من الزعماء اليساريين خرجوا عن الصف عندما تخلت البلدان عبر الأميركيتين عن دبلوماسية «تساهل مع جارك» المألوفة واعترفت بزعيم الجمعية الوطنية خوان غوايدو كرئيس مؤقت لفنزويلا. ولعل الاستثناء الأبرز في هذا الصدد هو الرئيس البوليفي إيفو موراليس الذي أعلن عن تضامنه مع نيكولاس مادورو وندد بـ«مخالب الامبريالية» التي تريد انتزاعه من السلطة. هذا الصوت الوحيد يشي بالكثير بشأن تغير المزاج السياسي في أميركا اللاتينية، حيث أخذت الزعامةُ الوطنية اليسارية تزاح من قبل مد سياسي متصاعد من اليمين.
المستاؤون ينظرون إلى هذا المد على أنه عودة لماضٍ استبدادي، عندما كانت أميركا اللاتينية موضوع جشع القوى العظمى ومخططاتها. هذا المد الأزرق الجديد لديه عدة ألوية، من التيار المحافظ المسيحي الإنجيلي، إلى الرأسمالية المدمرة، غير أن أزمة فنزويلا تشير إلى أن التحول الكبير لا يعزى لحرب باردة جديدة بقدر ما يعزى إلى انهيار الحكم. وفي هذا الإطار، يقول المحلل السياسي فيرناندو شولر، الذي يدرّس بكلية التجارة «إينسبر» في مدينة ساو باولو البرازيلية: «إن هذا التحول يأتي كرد على فشل إدارة اليسار الشعبوي في حكومات أميركا اللاتينية»، مضيفاً: «وإذا كانت عودة عملية الدمقرطة قد قوّت قبضة اليسار على السياسة والأوساط الأكاديمية والبيروقراطية، فإن الأجندة الرئيسية المؤيدة للسوق هي التي اكتسبت القوة والزخم الآن».
لكن، إلى أي مآل ستؤول كارثة فنزويلا السياسية؟ إلى رد فعل ديكتاتوري، أم إلى حرب أهلية، أم إلى فرار مادورو إلى المنفى؟ الواقع أنه لا أحد يعرف. غير أن اللغز الأكبر ربما هو كيفية إعادة النظام والازدهار إلى الاقتصاد الفنزويلي الذي بات في حالة فوضى؟ وهذا هو الموضوع، حيث ينبغي لديمقراطيي فنزويلا، وبغض النظر عن الموهبة السياسية الكبيرة التي لدى زعماء المعارضة في التسرع والإفراط في التبسيط والاختزال، الاستفادة من دروس عملية «إعادة التشغيل» السياسية المعرَّضة للحوادث التي تحدث عبر الأميركيتين.
أي نوع من اليمين سيهيمن في المنطقة سؤالٌ يصعب التكهن بإجابته. وعلى سبيل المثال، هناك كثير من الفوارق الأيديولوجية بين الخطاب الذي ألقاه الرئيس البرازيلي الجديد بولسونارو على قاعدته المحافظة خلال الحملة الانتخابية، وخطاب السوق الحرة الذي قرأه من شاشة التلقين في منتدى دافوس. كما لا أحد يعرف ما هي السياسات التي ستحرّك المعارضة الفنزويلية حال وصولها إلى السلطة. فالمسافة كبيرة بين الخط الذي يتبناه بولسونارو والسياسة المحافظة المتغيرة التي ينتهجها جيرانه.
وتصبح الرؤية أكثر ضبابية في الأرجتين، حيث انتُخب الرئيس ماوريسيو ماكري المستقل والمؤيد للتجارة من أجل إنقاذ الاقتصاد من شعبوية كريستينا فيرنانديز دي كورشنر «المدمرة»، لكنه سرعان ما وجد أن سياسة التدرج المالي التي أتى بها لم ترضِ مستثمري الأرجنتين ونخبة التجار ورجال الأعمال، ولا الجمهور الواسع الذي يشعر بالإحباط بسبب عدم تحقق التعافي الاقتصادي.
وخلاصة القول هي إن الليبرالية الاقتصادية لم تنتصر بعد. وفي هذا السياق، يقول شولر: «لا تتوقع إجماعاً ليبرالياً كاسحاً».. وهذا تحذير ينبغي على غوايدو أن يضعه في الحسبان.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلوميبرج نيوز سيرفس»