خلال الأيام القليلة القادمة يحل البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية ضيفاً على دولة التسامح مع الآخر والتصالح مع الذات، دولة الإمارات العربية المتحدة، مشعل التنوير في الأزمنة الحديثة إقليمياً ودولياً. يأتي الحبر الأعظم برسالة من الأخوة والتضامن الإنساني الخلاق، ليكمل سعي أحبار عظام سبقوه في درب البابوية على طريق تعميق الحوار والجوار مع العالم الإسلامي، وتحت مظلة من الإنسانية التي تجمع البشر دون تمييز بسبب جنس أو لون، مذهب أو عقيدة، سيما أنه كما يقول النص القرآني «لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة».
مثير جداً البحث في عمق أعماق تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وكيف أنها قادرة على تصحيح الأوضاع وتغيير الطباع، إذ هي تقرأ الأزمنة والأحداث بروح خلاقه تقفز على الموروثات التقليدية وفي الوقت عينه تتجاوز العقبات التاريخية، فمن أزمنة مواجهة وحروب ودمار، إلى أوقات سلام ووئام وبحث عن المصير المشترك الواحد.
يمكن القول إن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني قد مهد الطريق لهذا الحوار، في ستينات القرن الماضي، إلا أن البابا يوحنا بولس الثاني الكبير، وإن كانت قضيته ومواجهته الأولى كانت مع الشيوعية، إلا أنه أولى قضية الحوار والتقارب مع العالم الإسلامي أولوية أيضاً ضمن اهتماماته طوال حبريته التي دامت أكثر من ربع قرن. ويكفي أن التاريخ سيكتب أنه البابا الأول للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، الذي دخل إلى الأزهر الشريف مُرحباً به، وبهتاف من القلوب قبل العقول في مشهد يخلده التاريخ.
يكتب المؤلف الألماني والمؤرخ لحاضرة الفاتيكان «هاينز يواكيم فيشر» عبر كتابه «بين روما ومكة...البابوات والإسلام»، يقول إنه في نهاية العقد ونهاية القرن العشرين ونهاية الألفية، وبعد إجراء الكثير من الموازنات النظرية، وجد الفاتيكان موقفه المبدئي حيال الإسلام، فالبابا يوحنا بولس الثاني وضع في نطاق اللقاء العام معه في الخامس من مايو 1999، توجيهات للحوار بين الكاثوليك والإسلام.
حظيت هذه التوجيهات بالانتباه البالغ لدى المسلمين، حيث تم الاستشهاد بها مراراً، ولم تزل سارية المفعول، وما زيارة البابا فرنسيس للإمارات والمؤتمر الكبير الذي سينعقد هناك تحت شعار «أخوة وتضامن»، إلا دليل على أنها فاعلة وناجزة عبر التاريخ. يؤكد باباوات روما من يوحنا بولس الثاني إلى فرنسيس على النية الصادقة لتعميق موضوع الحوار بين اتباع الأديان، وإنعام الفكر باجراء حوار مع المسلمين الذين يعبدون إلها واحداً رحيماً، وأن الكنيسة تنظر إليهم بعين الإعزاز. فهي مقتنعة بأن إيمانهم بإله غيبي يساهم في إقامة عائلة إنسانية جديدة، تقوم على أسمى التوقعات النابعة من القلب الإنساني. وفي زيارة فرنسيس إلى الإمارات إشارات لا تخطؤها العين، سيما وأن الحوار دوماً وأبداً بين أبناء إبراهيم يفضي إلى معرفة وتقدير أعمق للطرف الآخر، وكلا التراثين المسيحي والإسلامي، لهما تاريخ طويل من الدراسة والتأملات الفلسفية واللاهوتية، بالإضافة إلى الفن والأدب والعلوم، مما ترك لهما آثاراً في ثقافات الغرب والشرق.
رحلة فرنسيس إلى الإمارات تحمل معنى ومبنى متقدمين غاليين وعاليي القيمة يتمحوران حول عبادة الله الواحد الأحد، الخالق لجميع البشر، تلك العبادة العقلية التي تشجعنا على تعميق معرفتنا المتبادلة في المستقبل. فالمسيحيون والمسلمون مدعوون في عالم اليوم الموسوم بنسيان الله بصورة مأساوية، إلى التحلي دوما بروح المحبة في العمل على الدفاع عن كرامة الإنسان والقيم الأخلاقية والحرية ودعمها.
تقودنا روح التسامح والتصالح على أرض الإمارات إلى حتمية السعي لإيجاد درب الحج المشترك نحو الأبدية، من خلال الصلاة والصوم وأعمال المحبة المشتركة، وفي العمل التضامني من أجل السلام والعدل والتنمية البشرية وحماية البيئة. زيارة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية إلى الإمارات كأول خليفة لماربطرس يطأ أرض الخليج العربي، أمر لو يعلم المرء عظيم، ذلك لأنه يحطم على فعل التلاقي نظريات المواجهة والصراع الجبري التي أراد البعض أن يُغلف إنسانية القرن الحادي والعشرين في إطارها، كما فعل عالم الاجتماع السياسي الأميركي الشهير صموئيل هنتنجتون بمحاولته تقسيم العالم إلى فسطاطين واحد للسلم وآخر للحرب، معسكر يهودي مسيحي غربي، في مواجهة تحالف إسلامي كونفوشيوسي شرقي. أما كيف ذلك، ففي فرح اللقاء السر، وفي الأخوة والتضامن الإيجابي من أجل خدمة البشرية الآليات التي تؤكد زيف الحتمية الجبرية للاقتتال والحروب الاستباقية. بالقدر نفسه تأتي الزيارة لتبين لنا أن نهاية التاريخ التي بشر بها «فرنسيس فوكاياما» بعيدة جداً، فها هو على أرض الإمارات يكتب فصلاً جديداً من فصول تاريخ التفاهم والتلاحم الإنساني دون مغالاة أو تزيد.
والشاهد أنه إذا سرنا معاً على طريق المصالحة باستسلام خاشع لإرادة الله، وتنازلنا عن أي شكل من أشكال العنف كوسيلة لحل الخلافات في الرأي، فإن بإمكان مسيحيي ومسلمي العالم أن يضعوا علامة للأمل، وأن يجعلوا حكمة ورحمة الله الواحد الذي خلق العائلة البشرية ومازال يوجهها، تضيء العالم.
*كاتب مصري