ما يُنسب للمرأة من وردية الألوان للجهر بأن جنس المولود القادم أنثى قد لا يزيد حجمها «المبهج» عن بضع كيلوجرامات، هو ذات اللون الذي يملأ الطرقات والإعلانات ليقول بأنهن الأقدر على محاربة السرطان، وإن المرأة أياً كان لونها فهي كالزهرة جذابة، لكن الأصل بها «بذرة»، فلا بد من صونها وتوفير ما يعمل على نموها نمواً سليماً دونما أي تشويه.
التلويح بـ «عصى الجهل» ما زال أسلوباً منتهجاً لدى ذكوريي المجتمعات في أسلوب تعاملهم مع المرأة، ملوحين في الأفق بفهمهم الخاطئ للنصوص القرآنية، ومبادئهم الزائفة التي أشبعوا عليها على نسق «آبائنا وأجدادنا» ودأبوا لتغذيتها، مع أن الأحرى بهم تغذية عقولهم في فهم النصوص الربانية، فقوله تعالى: «الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء»، هي تكليف وليست تشريف، كما أن السُنة النبوية الشريفة خطت بخيوط من ذهب في مجال التعامل مع المرأة، حقوقاً وواجبات.
الذي وضع في المرأة القدرة على ولادة مجتمع، وضع فيها أيضاً القدرة والشغف لبنائه وتأدية واجبها الرسالي تجاهه بحب من خلال بناء منظومة مفاهمية متحررة من ثقل التاريخ وأزماته الفكرية تفرق بين نسبية التراث الفقهي وقدسية النص المؤسس لدور المرأة وعلاقاتها بمحيطها الاجتماعي والثقافي، على اعتبارها العامل الأقوى في تجاوز «النظرة الحريمية» للمرأة وتأسيس فقه التعاون بين المرأة والرجل، حفاظاً على التماسك الأسري والتوازن المجتمعي، وبخاصة أنها الأخير في ما قد يواجهها من عثرات تعيق دورها الرسالي الحضاري، ومن هنا فهي الأقدر أيضاً على مواجهة تيارات اصطدام الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل من خلال بلورة مشروع نهضوي أساسه مبني على ثقافة التكامل بين الجنسين والتحول إلى النظر إلى مشكلة الإنسان المسلم ذاته سواء أكان رجلاً أو امرأة، للوصول إلى الاندماج في المجتمع المدني المعاصر ببدائل فكرية واجتماعية وثقافية وقيمية أصيلة ومنفتحة على التجربة الإنسانية جميعاً.
فمن غير اللائق أو المعقول استمرار الأم أو الأخت أو الابنة بالعيش داخل هالة «الجارية» أو «الأمة»، والسماح لعجلة التاريخ بفعل أيدينا أن تدور بها مرة أخرى نحو الجاهلية الأولى، فنعم لقمع النظرة الاستعبادية الحريمية، التي تنظر للمرأة من عدسة الخادمة القائمة على شؤون البيت ورعاية الأطفال، وتجميد قيمتها وكبت طاقاتها واختزالها كجسد ناشط في العمل البيتي، أو المعاشرة، فلم نتغافل النظر لها ك «إنسان» داخل في دائرة التفضيل والتكريم التي وهبنا إياها الله على كافة المخلوقات؟!
ومن ناحية أخرى، فإن المرأة أحياناً أصبحت - للأسف - من المشاركين في فشل مشروعها النهضوي والحداثي الراقي حين تمركزت نظرتها في إثبات وجودها من خلال «المكياج السطحي»، دون الانتباه إلى أن الجمال لا قيمة له حين يمزج بالغباء أو الجهل، ذلك من خلال عدم وعيها بدورها المنوط بها، والوقوف فقط عند التغني والشعور بالزهو بسماع الكلام «الرنان» حول الحقوق التي أعطاها لها وقررها المولى تبارك وتعالى، إذ لا يكفي تعليم المرأة لمحو الأمية، بل عليها بالوعي المبنى بالضرورة على تعليمها، ومسؤولياتها الشرعية ودورها الاجتماعي والحضاري، إذ لا يمكن زراعة المحصول دون التأكد من خصوبة التربة وموائمتها، ولا يمكن التأسيس لدور فاعل للمرأة في مجتمعها دون تسليحها بوعي وثقافة وإعطائها الثقة التي تؤهلها من القضاء على السلبية التي فرضت عليها وكانت السبب في تدني سقف الطموح والثقة بالقدرات وربطها فقط في الرجل، دون الإمعان في سجل منجزات المرأة المقدم في أبواب المعرفة كافةً، كالحراك النسائي الذي تصدرته السيدة عائشة بنت أبي بكر، محاكاةً للطفرة القيمية المحدثة بفعل الدين الجديد آنذاك. فكانت المُحدِّثة والمُفسرة والفقيهة، وتربعت على عرش أوائل النساء اللواتي خضن حقول العلوم المنبثقة عن القرآن الكريم من تفسير وفقه وحديث.
إن الشراكة الحياتية القائمة على علاقة المرأة والرجل تمثل الركيزة الأرصن لانطلاق البناء المجتمعي منها وصونه من أي خلل يهدد توازنه الطبيعي وذلك من خلال العلاقة التكاملية بينهما، وليس أدل على ذلك من النماذج البراقة المشهود لها بالبناء الحضاري التي أبرزتها النساء المسلمات عبر التاريخ الإسلامي، ولربما ما أخل بنقاء تلك الصورة وعمل على تشويهها وتفريغها من قيمتها ما عاشته المجتمعات المسلمة من انكسار حضاري، أرجع بقيمة الدور الإسلامي وأطفئ وهجه وبخاصة في خضم الصراع الداخلي الذاتي، والوقوع في فخ مسؤولية التاريخ والتراث في ذلك، مما فسح المجال لدخول دعوات تحرير للمرأة بلا تأطير صحيح لمجرى أو حيثيات ذلك التحرير، دافعاً للإغراق بمعنى تحرر المرأة بمفهومه الغربي العلماني.
ولطالما اعتبرت المرأة أساساً لابد من الوقوف بجانبه ودعمه وليس الوقوف في وجهه وعرقلته، وبخاصة في هذا الوقت الذي يفرض واجباً ملحاً، لتناول التراث الفقهي لقضية المرأة المسلمة على ضوء المستجدات والتحديات ومقاصد الشرع الإسلامي الحنيف، ذلك لمكافحة التحديات والعراقيل التي تعاني منها المرأة من «التفسير الذكوري» للنص الديني والوقوع في «النظرة الحريمية» الاختزالية، وغلبة تقاليد وعادات الأقوام والشعوب على روح النص الديني، و«أسلمة الصراع» والزج بالمرأة في ثقافة الاستكانة والاستضعاف في مواجهة تيار «الأنسنة»، وعولمة مشاريع الجندر دون الأخذ في الاعتبار خصوصيات الشعوب والثقافات.