تتميز دولة الإمارات العربية المتحدة، وقيادتها، بقدرة على التفكير فيما لا يفكر فيه غيرها. ?وتتجلى ?هذه ?القدرة ?في ?المبادرات ?التي ?تطلقها، ?دون ?أن ?يتوقعها ?أحد، ?رغم ?اشتداد ?الحاجة ?إليها. وأحدثها مبادرة عام التسامح، التي لم يتوقعها أسرى التفكير النمطي، ومن يعملون من دون رؤية واضحة للمستقبل. وتأتي هذه المبادرة في وقتها، إذ تشتد حاجة العالم، وليس منطقتنا فقط، لثقافة التسامح في ظل الانتشار المتزايد للتعصب والتطرف والكراهية ورفض الآخر، وتراجع قيم عصري النهضة والتنوير، وفي مقدمتها التسامح الذي أطلقت دولة الإمارات مبادرتها بشأنه سعياً لإعادة تأسيسه في العقل الإنساني عموماً، ولدى الأجيال الجديدة خصوصاً.
ولكي نعرف مدى أهمية هذه المبادرة، يتعين أن نعود إلى مرحلة أدرك فيها مصلحون كبار في أوروبا أن شمس التقدم لا يمكن أن تشرق في عالم مزقه التعصب الذي حجبت ممارساتُه النورَ عن البشرية، فغرقت في صراعات وحروب دينية ومذهبية. لذا ركز أولئك المصلحون جهودهم منذ القرن الـ17 من أجل إضاءة أنوار العقل والفكر انطلاقاً من تأسيس ثقافة التسامح.
ورغم مضي نحو أربعة قرون على بداية السعي إلى إرساء هذه الثقافة الإنسانية، التي لم يكن ممكناً أن تحدُث نهضةٌ أو تقدمٌ في أوروبا بدونها، ما زالت الأفكار التي طُرحت آنذاك مفيدة، وما برح استذكار بعض أهمها ضرورياً في مطلع العام الذي بادرت دولة الإمارات بإعلانه عاماً للتسامح.
ويظل كتاب جون لوك الصغير المعنون «رسالة في التسامح»، والذي نُشرت طبعته الأولى عام 1689، من أهم الأعمال التي يفيد استذكارها في هذه المناسبة. ويلفت الانتباه أن مرور أكثر من ثلاثة قرون على تلك الرسالة لا يغير بعض أهم ما ورد فيها عندما نتأمل حال منطقتنا، والصراعات الدائرة فيها، والإرهاب الذي يرفع من يمارسونه رايات دينية ومذهبية، وهم يقتلون ويذبحون ويُخرَّبون.
نقرأ، على سبيل المثال، في رسالة لوك قوله: «إذا كان من يَضطهِدون ويُعذِّبون ويذبحون غيرهم بدعوى الدين، يزعمون أنهم يمنحون ضحاياهم الإيمان ويبغون نجاتهم، فلماذا إذن ينتشر بينهم الغش والخبث والزنا؟ أليست هذه الفواحش وغيرها أشد تعارضاً مع مجد الله ونجاة النفوس؟ ولماذا لا تتجه الغيرة الشديدة التي تصل حدَّ إحراق الناس إلى معاقبة تلك الرذائل؟».
وعندما نعيد قراءة كتاب جون آدون ?(?Truth and Innocence Vindicated?) ?الذي ?يمكن ?ترجمة ?عنوانه ?إلى «?إنصاف ?الحق ?والبراءة»?، ?الصادر ?عام ?1660، ?نجد ?أنه ?ينبه ?إلى ?أخطار ?التعصب ?الذي ?يزداد ?انتشاراً ?في ?منطقتنا ?والعالم حالياً، ?إذ ?يحذر ?من ?العنف ?اللفظي ?ورفض ?الآخر ?وشيطنته، ?وتأليب ?الناس ?على ?المختلفين، ?وخلق ?هياج ?شعبي ?لا ?يمكن ?توقع ?عواقبه، ?ويدعو ?إلى ?تقدير ?العقل ?الإنساني، ?والاستناد ?إلى ?التفكير ?المتحرر ?من ?وصاية ?المحرِّضين ?على ?التعصب.
أما كتاب وليام باين «معقولية التسامح وعدم صلاحية قوانين العقوبات»، الصادر عام 1687، والذي كان نقطة تحول باتجاه مدنية الدولة، فيبدو كما لو أنه كُتب ونُشر للتو. فقد انطلق بدايةً من أن روح الإنسان لا ينبغي أن يتحكم فيها أحد يمنح نفسَه سلطةَ تمييز المؤمن مِن الكافر، إذ لا يملك أي إنسان هذا الحق.
وكم يبدو ما كتبه عن الإكراه الديني في ذلك الوقت المبكر قريباً من دعوات الإصلاح والتجديد التي يتبناها المدافعون عن مدنية الدولة في العالم العربي حالياً. فقد نبه إلى أن الإكراه والإرغام قد يؤديان إلى تدين شكلي على صعيد أداء العبادات والطقوس والمراسم الدينية، لكنهما يخلقان منافقين أو تجاراً ينظرون إلى الدين أو المذهب بوصفه تجارة يكسبون منها. ووصل في النهاية إلى أنه لا يحق لأحد أن يتدخل في حرية الضمير الفردي لأنها حق طبيعي للإنسان.
وقل مثل ذلك عن صرخة بيير بيل في كتابه «نقد عام لتاريخ الكلفانية»، الصادر عام 1681، والتي ننقلها نصاً: «لا شيء أدعى إلى جعل العالم مسرحاً دامياً للاضطراب والمذابح من تبرير اضطهاد أصحاب الأديان والمذاهب المخالفة».
وإذا كان كل من يؤلمه الآن حال منطقتنا، والعالم أيضاً، يردد هذه الصرخة، أفلا يصبح دعم مبادرة عام التسامح أكثر جدوى من الصراخ في البرية؟