تختلف دائماً التأكيدات القوية الكثيرة من قبل الرئيس دونالد ترامب، والتي يتحدث فيها عن حدوث تغييرات جوهرية في السياسة الخارجية الأميركية عن الواقع الحقيقي. فوعده ببناء جدار مهيب على الحدود الأميركية المكسيكية سينتهي به المآل على الأرجح ليصبح جداراً جزئياً أو ربما سوراً صغيراً في بعض المناطق، على أن تظل مناطق أخرى شاسعة من دون أن يُبنى فيها أي جدار. لكن أيّاً كانت صورة الحواجز المبنية في نهاية المطاف، فلن تدفع المكسيك مقابل بنائها شيئاً!
وإعلانات ترامب بشأن نهاية البرامج النووية والصاروخية لكوريا الشمالية لم تُسفر عن شيء حتى الآن. وعلى الرغم من أن بيونج يانج لم تجر أية تجارب نووية جديدة، إلا أن إنتاجها من الصواريخ مستمر، كما أنها لا تزال قوة نووية كبيرة.
أما التغريدة غير المتوقعة التي أعلن فيها ترامب، يوم التاسع عشر من شهر ديسمبر المنصرم، أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها البرية البالغ تعدادها 2000 جندي في شمال سوريا، وذلك بالنظر إلى الانتصار الذي تحقق في الحرب على تنظيم «داعش» الإرهابي، فقد تراجع عنها بهدوء فريقه للأمن القومي. وقد سافر مستشار الرئيس للأمن القومي «جون بولتون»، نهاية الأسبوع الماضي، إلى الشرق الأوسط، وأوضح لإسرائيل وتركيا، وبصورة غير مباشرة، لروسيا وإيران ونظام بشار الأسد في سوريا، أن سحب الولايات المتحدة لقواتها البرية لن يحدث بين عشية وضحاها، ولن يتم حتى تحصل واشنطن على التزام واضح من تركيا بأن قواتها لن تهاجم الأكراد السوريين الذين قاتلوا إلى جانب القوات الأميركية ضد تنظيم «داعش». وسيكون تجاوب تركيا مع هذا المطلب بمثابة اختبار لإرادة كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس ترامب نفسه.
ولا شك في أن ما بدا للبعض «خيانةً» من قبل الرئيس ترامب للأكراد السوريين، كان عاملاً أساسياً وراء استقالة وزير الدفاع الأميركي «جيمس ماتيس» في العشرين من ديسمبر الماضي. ومنذ ذلك الحين، أصبح الأصدقاء والحلفاء الرئيسون لواشنطن أكثر قلقاً بشأن الإعلانات المفاجئة من قبل ترامب من دون مناقشة مسبقة مع فريق عمله ومع المسؤولين الأمنيين والعسكريين الأميركيين ولا مع الحلفاء الخارجيين أيضاً.
وثمة اعتقاد بأن ذلك السلوك المتذبذب من جانب الرئيس الأميركي قد قوّض مصداقية الولايات المتحدة كقوة عظمى على كثير من الأصعدة. وقد كانت هذه القوة هي حجر الزاوية في نظام التحالف الكبير والمتماسك الذي قاده الرؤساء الأميركيون المتعاقبون منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ونظراً لأن الرئيس ترامب يعتبر نفسه أفضل متخذي القرارات بشأن السياسات الخارجية والدفاعية، وكذلك القضايا المحلية ذات الصلة بالأمن القومي والاقتصاد والصحة، فليس من المفاجئ أن مصداقيته كرئيس أصبحت تخضع لمراقبة شديدة أكثر من أي وقت مضى منذ أن أصبح شاغلاً للبيت الأبيض. وربما كان الأكثر إثارةً للقلق هو فهمه الخاطئ للتاريخ الحديث، خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا.
وفي بداية العام الجديد، أكد الرئيس ترامب أن الاتحاد السوفييتي كان محقاً في غزوه أفغانستان عام 1979 بسبب تسلل الإرهابيين إلى الأراضي السوفييتية في حينه. والواقع هو أن السوفييت اجتاحوا أفغانستان لمساندة حكومة شيوعية فاشلة وتعزيز نفوذهم في جنوب غرب آسيا، ومن ثم تهديد إمدادات النفط الخليجية المتجهة إلى الغرب، من بين أهداف أخرى حساسة وخطيرة للغاية. وبالطبع، استغل الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين التفسير اللطيف من قبل الرئيس ترامب للغزو السوفييتي كوسيلة لدعم موقفه القومي.
ولعل الشعور السائد الآن هو أن ترامب سيقبل التاريخ الروسي المعدل حالياً بشأن أفغانستان، والذي يختلف اختلافاً جذرياً عن الرواية التقليدية للغزو، وهو أمر يُقلق كثيراً من «المحافظين» الأميركيين، إلى جانب كثير من «الديمقراطيين» أيضاً، ويضع ترامب نفسه في «موقف ضعف» أمام بوتين، كما يجعله مستعداً لقبول أبعد التفسيرات عن الواقع حول السلوك السوفييتي والروسي تجاه دول الجوار، ومن بينها أوكرانيا التي كانت واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي.
وبالطبع، ستضع الأسابيع المقبلة مزيداً من الضغوط على ترامب، فكيف سينهي الإغلاق الجزئي للحكومة الفيدرالية من دون خسارة ماء وجهه بشأن بناء جداره على الحدود مع المكسيك؟ وكيف سيرد على نتائج تحقيقات المستشار الخاص «روبرت مولر» الذي يبدو أنه يقترب من كشف أمور خفية في تعاملات الرئيس مع روسيا؟ وكيف سيدير التحقيقات الكثيرة الجديدة في إدارته التي سيبدؤها النوّاب «الديمقراطيون» الذين يسيطرون حالياً على «مجلس النواب»؟
والقلق كل القلق هو من أن يلجأ ترامب إلى قرار مندفع بإعلان «حالة طوارئ وطنية» لاحتواء الهجرة غير القانونية، وهو تحرك يعتقد كثيرون أنه سيكون «غير دستوري» من دون موافقة الكونجرس.