وافقت الولايات المتحدة والصين في نوفمبر الماضي على هدنة مدتها ثلاثة أشهر في حرب تجارية تدور رحاها بينهما. وجاء هذا الاتفاق بشرى سارة لكل من يريد تحقيق ازدهار من خلال التجارة. ومع اقتراب نهاية الهدنة، فإن أفضل خطوة تالية هي أن يتفق البلدان على تحديثٍ أكثرَ هيكليةً لنظامٍ دولي يستند إلى القانون. وإذا نجحا، فيمكنهما الانتعاش في العصر الرقمي. فقد تعلقت التجارة والعولمة والهيمنة الاقتصادية، على مدار 250 عاماً، بشحن بضائع مادية في أغلب الأحوال. ومثّلت السفنُ المبحرةُ المحملةُ بالتوابل، عبر الإمبراطوريات، الصيغة الأولية لسلاسل قيم التصنيع التي نعرفها اليوم. لكن مستقبل العولمة سيدور في عالم المعرفة والمعلومات والتكنولوجيا.
وهناك دراسة لشركة «ماكينزي آند كامباني» الأميركية للاستشارات الاقتصادية والإدارية، توصلت إلى أن التجارة الإلكترونية تمثّل بالفعل 12% من التجارة الدولية، وتوقعت الدراسة زيادة في هذه التجارة بخمسة أضعاف بحلول عام 2022. وهناك ملايين الخدمات التي يتم تقديمها رقمياً، وهذا أيضاً يحدث بشكل متزايد عبر الحدود. وبالإضافة إلى ذلك، تمضي العولمة في طريقها وستتطلب تحديثاً لإطار عمل دولي تنظيمي. ولا تستطيع دولةٌ عزلَ نفسها عن هذه التوجهات.
ويطرح العالم الرقمي مخاطرَ جديدة؛ وحتى الحرب لها أبعاد رقمية الآن. فالدول والمنظمات والأفراد يمكنهم أن يتسببوا في فوضى بوسائل لم تكن متخيلة من قبل. وكي نحافظ على انتقال كميات هائلة من البيانات بالسلاسة التي كانت تمر بها حاويات شحن البضائع، يتطلب الأمر قواعد مقبولة دولياً.
فما الذي يجب على الولايات المتحدة والصين مناقشته في المرة التالية التي يجتمعان فيها؟ صحيح أن النزاع التجاري الحالي يدور حول البضائع، لكنه قد يشكل أساساً لتسوية دولية جديدة في مجالات رقمية من العولمة. ويمكن أن يركز على القواعد المتعلقة بتجارة التكنولوجيا والتعاون بدلاً من التجارة التقليدية. وتستطيع الاقتصاديات الرائدة في العالم التعاون في وضع إطار عمل دولي يكون محوره الابتكارات الرقمية والذكاء الصناعي وحقوق الملكية الفكرية. وينبغي أن يستهدف إطار العمل تهيئةَ بيئة آمنة تسمح للدول الملتزمة بالقانون بالسعي وراء مصالحها، ويكفل لنا القدرة على تحقيق الرخاء للأجيال القادمة.
وقد يؤدي إرساء إطار عمل مثل هذا إلى حقبة أخرى من النمو والسلام غير المسبوقين، لكن ينبغي فعل ذلك بشكل صحيح. فحين تسير الأمور على نحو غير صحيح في عالم شديد الترابط، تنشأ تهديدات من مناطق غير متوقعة وتتحرك في اتجاهات غير متوقعة أيضاً. فقد وقعت أضرار كبيرة بسبب قرصنة الانتخابات والتحريض على العنف وسط جماعات الكراهية على الإنترنت والهجمات الرقمية لعملاء أجانب. ومن المؤكد أنه سيحدث المزيد من الانتهاكات مستقبلاً. وأياً كان ما سيحدث، فإنه لن يهيمن على المؤسسات التي تحكم العصر الرقمي طرفٌ واحدٌ مثل الولايات المتحدة التي تقوم بهذا الدور حالياً. وستطالب قوى أخرى صاعدة وراسخة القدم بمكان على الطاولة وستطالب به أيضاً أطرافٌ فاعلةٌ من غير الدول، مثل الشركات الاقتصادية وزعماء التكنولوجيا والمنظمات غير الحكومية. وسيضطلع كل مشارك بنصيب في الحفاظ على التصرف بشكل مسؤول.
لكن الولايات المتحدة هي البلد الذي قرع جرس الخطر، وهذا يعطيها ميزةً على القوى الصاعدة في صياغة ما هو قادم. والنظام القديم الذي أسسته الولايات المتحدة وحافظت عليه يتصدع فيما يبدو، لكن إذا استغلت أميركا ميزتها باعتبارها المحرك الأول في المفاوضات، فإنها تستطيع الخروج من النزاع الحالي بنظام قائم على القانون لمنافسة نزيهة في اقتصاد عالمي تتفوق فيه أهمية العالم الرقمي على أهمية البضائع المادية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»