نقلت دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إنشاء جيش أوروبي، الخلافات الفرنسية الأميركية إلى مستوى أعلى. كان ماكرون، والمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، أكثر القادة الأوروبيين انزعاجاً من التغيير الذي يُحدثه ترامب في السياسة الأميركية تجاه الحلف الأطلسي (الناتو). كما كانا الأكثر قلقاً من أن تكون مطالبة ترامب الدولَ الأوروبيةَ بزيادة إنفاقها الدفاعي، وتحمّل أعباءَ أكبر في نفقات الحلف، مقدمةً لخفض واشنطن مستوى التزامها تجاه «الناتو».
لم تكن دعوة ماكرون إلى إنشاء جيش أوروبي وحدها التي استفزت ترامب. فقد وضع الرئيس الفرنسي الولايات المتحدة ضمن القوى التي تهدد أوروبا، إلى جانب روسيا والصين. كما أسهم ترحيب ميركل بدعوة ماكرون في إثارة ترامب، إذ أثنت أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ (13 نوفمبر الماضي) على هذه الدعوة.
لذلك لم يكتف ترامب بمهاجمة دعوة ماكرون، بل وجد في تأييد ميركل الفوري لها فرصةً للتذكير بتاريخ الصراع الفرنسي الألماني الذي بلغ ذروته في الحرب العالمية الثانية، وبفضل الولايات المتحدة في تحرير الفرنسيين من الاحتلال النازي. ورغم أن رد فعل ترامب القوى يوحي بقلق يعتريه بسبب ما يبدو نواة تحالف أوروبي قيد التكوين، فالأرجح أنه مطمئن إلى أن الأمور ستمضي في الاتجاه الذي يريده، وهو زيادة مساهمات الأوروبيين العسكرية، وتحملهم قسطاً أكبر في موازنة الحلف الأطلسي، مع بقاء الحلف تحت القيادة الأميركية في الوقت نفسه.
ويعود اطمئنان ترامب إلى عاملين، أولهما الصعوبات العملية التي تواجه فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد، والتي تجعلها غير واقعية. وأهم هذه الصعوبات عدم وجود بنية أساسية يمكن أن تحمل فكرة الجيش الموحد، في ظل غياب التعاون في الصناعات الدفاعية بين معظم الدول الأوروبية، إذ يكاد هذا التعاون يكون محصوراً بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
ولا يوجد اتفاق بين الدول الأوروبية على الحاجة إلى جيش موحد. وكان رئيس الوزراء الهولندي «مارك روت» أول من أعلن التحفظ على «الدعوة الفرنسية الألمانية» التي قال إنها سابقة لأوانها، وإنه من الوهم تصور قدرة الاتحاد الأوروبي على ضمان سلامته من دون الحلف الأطلسي. لكنه ليس وحيداً، ذلك أن عدداً غير قليل من الدول الأوروبية لا يأخذ فكرة الجيش الموحد على محمل الجد، ولا يتصور إمكان استبدال مظلة أوروبية لا يعرف أحد شكلها وفاعليتها بالمظلة الأميركية.
أما العامل الثاني الذي قد يجعل ترامب مطمئناً فهو أن وضعه الداخلي أقوى، أو أقل ضعفاً حسب زاوية النظر، من ماكرون وميركل على حد سواء. ولعلها مفارقة أنه فيما توجّه ماكرون إلى برلين في 17 نوفمبر لمشاركة ميركل تكملة الاحتفالات بمئوية نهاية الحرب العالمية الأولى، وأعاد تأكيد الحاجة إلى جيش أوروبي موحد، كانت شوارع وطرق عدة في فرنسا تعج بذوي «السترات الصفراء» المحتجين على سياسته الاقتصادية. وتشهد فرنسا، منذ أوائل الشهر الماضي، احتجاجات واسعة تستمد أهميتها هذه المرة من طابعها التلقائي، وليس من حجمها الكبير فقط، إذ بدأت بمعزل عن النقابات والأحزاب، ونظم المحتجون أنفسهم في إطار حركة لا مركزية يُطلق عليها «السترات الصفراء».
وفي الوقت الذي تأكدت ميركل من تراجع شعبيتها في الانتخابات البرلمانية العامة التي أُجريت في سبتمبر 2017، ثم في انتخابات ولاية هيسن في آخر أكتوبر الماضي، واستقالت من قيادة «الحزب المسيحي الديموقراطي»، وصار عليها أن تتقاعد عام 2021 على الأكثر، تتواتر المؤشرات على انخفاض مستمر في شعبية ماكرون أيضاً على نحو قد يُضعف فرصته في الفوز بولاية ثانية.
لذلك، فالأرجح أن ماكرون سيكون في موقف بالغ الضعف داخلياً وخارجياً عندما تتقاعد ميركل عام 2021، وربما قبل ذلك، في الوقت الذي يبدو احتمال إعادة انتخاب ترامب كبيراً رغم خسارة حزبه في انتخابات مجلس النواب. فقد عزز الحزب الجمهوري أغلبيته في مجلس الشيوخ. كما أن نتيجة انتخابات مجلس النواب تخفي ضعفاً هيكلياً في الحزب الديمقراطي الذي لم يظهر بين مرشحيه سياسيون يملكون مقومات القيادة ويمكن أن يكون أحدهم منافساً قوياً لترامب، فضلاً عن انقسامه إلى ثلاثة تيارات متصارعة.
فهل يغادر ماكرون الأليزيه في مايو 2022، بعد أن تتقاعد ميركل، بينما يبقى ترامب في البيت الأبيض حتى يناير 2025؟ احتمال ليس بعيداً، وربما يكون كبيراً.