من الصعب تخيل أن يكون هناك تباعد بين شخصيتين أكثر مما بين جورج بوش الأب، الرئيس الحادي والأربعين للولايات المتحدة، ودونالد ترامب، الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة. فلا يشترك الرجلان في أي شيء تقريباً فيما عدا تنشئتهما المميزة والعضوية في الحزب «الجمهوري». فقد تطوع بوش أثناء الحرب العالمية الثانية في البحرية في عمر الثامنة عشرة. لكن ترامب حصل على تأجيل خمس مرات من قرعة التجنيد، ما جعله بعيداً عن الحرب في فيتنام. وشغل بوش سلسلة طويلة من المناصب الحكومية بالتعيين والانتخاب قبل أن يصبح رئيساً للبلاد مما جعله أكثر الرجال الذين شغلوا المنصب دراية. أما ترامب، فليس لديه خبرة في العمل الحكومي. وبوش كان يكره استخدام الحديث بضمير المتكلم على عكس ما يرغب فيه ترامب.
فكيف انتقلنا في ربع قرن من الرئيس بوش الأب إلى الرئيس ترامب؟ جزء من الإجابة يمكن العثور عليه في سنوات بوش. وتأمل الماضي يجعلنا نرى بالفعل تجمع العاصفة التي ستحمل ترامب إلى البلاد. فقد كان بوش أكثر الرؤساء الذين تولوا فترة رئاسية واحدة نجاحاً في تاريخ البلاد. وأشرف على الانتصار في حرب الخليج والنهاية السلمية للحرب الباردة وتوحيد ألمانيا، وهي إنجازات يبدو جميعها لنا اليوم مفروغا منها لكن كان من الممكن بسهولة أن تكون النتائج أقل سعادة بكثير. إلا أن بوش لم يحظ بأي حب من اليمين. ولم ير المحافظون في بوش واحداً منهم وبحلول نهاية فترة ولايته انقلبوا ضده.

فقد انهار الارتباط بين بوش الأب و«اليمين» في عام 1990. فقد كان الرئيس عازماً على تقليص العجز المتزايد في الموازنة الذي ورثه عن رونالد ريجان وتزايد بسبب الحاجة إلى انتشال مؤسسات الادخار والإقراض الفاشلة. ومع مضي البلاد نحو حرب تحرير الكويت، أراد بوش الأب ضبط مالية أميركا. لكن بوش وعد من دون تبصر عام 1988 بعدم زيادة الضرائب. وكان يعلم أنه سيدفع ثمناً لنكثه بوعده، لكنه أصر على القيام بهذا لخير البلاد.
ودعم «نيوت جينجريتش»، ثاني أبرز «الجمهوريين» في مجلس النواب، في بداية الأمر فيما يبدو، صفقة إنفاق تجعل الزيادة في الضرائب تستهدف الوقود والكحول ومنتجات أخرى. لكن جينجريتش تراجع فيما بعد. وأحبطت المعارضة من «الجمهوريين» المحافظين و«الديمقراطيين» الليبراليين الصفقة مما أدى لتعطل أعمال الحكومة مؤقتاً. لكن بوش تفاوض من جديد، ووافق على زيادة صغيرة في الضرائب على أعلى شريحة من الدخل ليرفعها من 28% إلى 31%. وتمسك «جمهوريون» بالرفض لكن هذه المرة توافر ما يكفي من أصوات «الديمقراطيين» لإقرار الصفقة.
ومن المنظور المالي المحافظ، كانت صفقة عام 1990 نجاحاً مثيراً للغضب. وأشار المؤرخ الأميركي «بروس بارتليت» أن «الصفقة النهائية قلصت الإنفاق 324 مليار دولار على مدار خمس سنوات وعززت العائدات 159 مليار دولار». وفي غضون ثمانية أعوام، تحول العجز البالغ 376 مليار دولار إلى 113 مليار دولار من الفائض في الموازنة. لكن المحافظين لم يغفروا لبوش الأب عقوقه قط. وساعدت معارضة جينجريتش لصفقة الميزانية واحتقاره بصفة عامة للتوافق بين الحزبين أن يصبح في عام 1994 أول رئيس لمجلس النواب من «الجمهوريين» في 40 عاماً.
وكانت زيادة بوش الأب للضرائب جزءاً من الأساس المنطقي الذي اعتمد عليه «باتريك بوكانان» في ترشيحه في حملة الانتخابات الرئاسية الأولية في الحزب «الجمهوري» التي أثبتت أنها مدمرة أكثر مما توقع أي أحد. فقد فاز «بوكانان» بأصوات في نيوهامبشير بلغت 37.5% بما كان يكفي ليحرج شاغل المنصب. وحصل على مساحة وقتية بارزة في المؤتمر«الجمهوري» ألقى فيها خطاباً عن «الحرب الثقافية» حمل فيه على المعتدلين والمستقلين. وأشار الصحفي «جيف جرينفيلد» إلى أن كثيراً من الأفكار التي تناولها «بوكانان» عام 1992 كانت شبيهة بأفكار ترامب عام 2016. وكان «جورج ويل» من «واشنطن بوست» قد أشار بعد صعود ريجان، أن المرشح الرئاسي «الجمهوري» باري جولدووتر فاز عام 1964، لكن كل ما في الأمر أن «إحصاء الأصوات استغرق 16 عاماً». وفاز بوكانان بالمثل عام 1992 وكل ما في الأمر أن إحصاء الأصوات استغرق 24 عاماً.
وشهد بوش الأب ما كان يحدث وأثار رعبه. وأورد في مذكراته أن «اليمينيين» إذا استولوا على الحزب «الجمهوري»، سيدمرونه. أما الآن وقد سيطروا على الحزب، فمن المستحيل تخيل أن يرشح الحزب رجلاً يضع الولاء للبلاد فوق الولاء لعقيدة الجناح اليميني. ومع وفاة جون مكين ننعى وفاة وطني خدم قضية أكبر منه ونتحسر على أنه لم يتبق إلا القليل جداً مثله.
* باحث في دراسات الأمن القومي في «مجلس العلاقات الخارجية» البحثي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»