كانت زيارة أخرى إلى أوروبا بالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي سافر إلى باريس الجمعة قصد المشاركة في فعاليات إحياء الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى. كان يمكن أن تكون فرصة لإصلاح الخلافات وتكريم تضحيات حلفاء واشنطن التقليديين. لكن بدلاً من ذلك، لم يعمل ترامب سوى على إظهار الهوة الآخذة في الاتساع بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
ففي يوم الأحد الماضي، تغيب ترامب – وكذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – عن موكب يضم العشرات من زعماء العالم الذين ساروا معاً على شارع الشانزيليزيه نحو «قوس النصر». رمزية هذا الغياب لم تخْفَ على المراقبين. ثم ألقى ماكرون كلمة تضمنت انتقاداً حاداً لأجندة «أميركا أولاً» التي يتبناها ترامب. وقال ماكرون: «إن العفاريت القديمة أخذت تطل من جديد. الأيديولوجيات الجديدة تتلاعب بالأديان، والتاريخ يهدد بتكرار مآسيه. ولهذا دعونا نتعهد مرة أخرى كأمم بضمان أن يظل السلام الأولوية الأولى، قبل كل الأشياء الأخرى، لأننا نعرف كلفتها». وأضاف: «عندما نضع مصالحنا أولاً، من دون أي مراعاة للآخرين، نقوم بمحو الشيء نفسه الذي تعتبره الدول عزيزاً وغالياً، والشيء الذي يبقيها حية، ألا وهو: قيمها الأخلاقية».
«العلاقة الودية جداً» التي كانت موجودة ذات يوم بين ترامب ونظيره الفرنسي تلاشت على ما يبدو، بغض النظر عن بعض التغريدات التي تقاسماها في عطلة نهاية الأسبوع. فقد انسحب ترامب من اتفاق باريس للمناخ ومن الاتفاق النووي الإيراني، متجاهلاً جهود ماكرون لإقناعه بالعكس، وهلل لصعود الشعبويين اليمينيين عبر أوروبا، بمن فيهم خصوم داخليون لماكرون. وفي الأثناء، اختار الرئيس الفرنسي لنفسه أسلوباً يتعارض مع أسلوب ترامب.
ويقول توماس رايت من مؤسسة بروكينجز في واشنطن: «أعتقد أن ماكرون تخلص من أي وهم بشأن ترامب وبأن مجاملته له يمكن أن تكون طريقاً للحصول على تنازلات»، مضيفاً: «لكنه متردد في المقاومة والرد بقوة لأنه غير واثق من نتائج ذلك. إنها واقعية حذرة».
وفي مقابلة مع قناة «سي إن إن»، شدد ماكرون على أن معتقداته ليست معتقدات الرسم الكاريكاتوري لـ«أنصار العولمة» الأغنياء كما يصوِّره ترامب ونظراؤه اليمينيون في أوروبا، وإنما معتقدات شخص براجماتي يؤمن بالتعاون والتفاهم بين الدول ويدرك التحديات المشتركة التي تواجه العالم. ويقول ماكرون: «إنني أؤمن بالتعاون بين الشعوب المختلفة، وبأن هذا التعاون جيد ومفيد للجميع، فيما يميل القوميون أكثر إلى مقاربة أحادية وإلى قانون الأقوى.. وهذا مكمن خلافنا».
تشاطر ماكرون في هذا الاعتقاد المستشارةُ الألمانية أنجيلا ميركل التي قالت الأحد، في معرض دفاعها عن النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية الذي ضمن لمعظم أوروبا عقوداً من السلام والازدهار: «من السهل تدمير المؤسسات، لكن من الصعب للغاية بناؤها».
ويوم السبت الماضي، ذهب ماكرون وميركل إلى كومبين، الموقع الذي وقِّعت فيه الهدنة التي أنهت الحرب العالمية الأولى، وحيث أرغم هتلر فرنسا على الاستسلام في 1940. في موقع يرمز للنصر والهزيمة لكلا البلدين، اجتمع الزعيمان من أجل الوحدة.
لكن هذا المشهد المثير للعواطف قد لا يعكس تماماً روح الحاضر. فعلى غرار ماكرون، تحذر ميركل من حاجة أوروبا إلى تقوية نفسها جماعياً أمام ولايات متحدة لم يعد ممكناً التعويل عليها. غير أن كلا الزعيمين يواجهان اختبارات سياسية صعبة في الداخل. فمعدلات التأييد الشعبي لماكرون انخفضت إلى مستويات قياسية خلال الأشهر الأخيرة. والشهر الماضي وضع استطلاعُ رأي حزبَ ماكرون الوسطي خلف اليمين المتطرف الفرنسي في أفق الانتخابات الأوروبية العام المقبل.
وفيما يعمل كل من اليمين المتطرف واليسار على استجماع قوتهما، يكافح القادة الأوروبيون من أجل إيجاد أرضية مشتركة بخصوص مواضيع متنوعة، من السياسة النقدية إلى الهجرة إلى سبل مواجهة روسيا.
ويقول دومينيك موازي، محلل الشؤون الخارجية بمعهد مونتين في باريس والمستشار السابق لحملة ماكرون: «إن الأوروبيين منقسمون جداً على أنفسهم، وحول مواضيع أساسية»، مضيفاً: «سيكون ماكرون ضعيفاً لأنه سيبقى وحيداً من دون دعم ميركل، وهو ضعيف داخلياً نظراً للهبوط اللافت لشعبيته».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»