أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يوم الاثنين قبل الماضي أنها ستترك منصبها كرئيس للحزب «الديمقراطي المسيحي» بحلول نهاية العام وأنها لن تسعى لإعادة انتخابها في منصب المستشارية عام 2021. صحيح أن ميركل مازالت مستشارة ألمانيا، لكن لدينا الآن تاريخ انتهاء قيامها بمهام هذا المنصب. وشغلت ميركل منصب المستشار 13 عاماً، وهي بذلك أكثر زعماء الاتحاد الأوروبي بقاء في منصبها. وهناك مباركون بالفعل لقيادتها، وكثيرون من مراقبي السياسة الخارجية الأميركية، ممن يستخفون بالرئيس ترامب يصفونها بأنها الزعيم الحقيقي للعالم الحر.
ففي صحيفة «واشنطن بوست»، تناول «جريف ويت» قرار ميركل وما يعنيه لألمانيا والغرب عموماً قائلاً: «ميركل بوصفها مدافعاً نشطاً عن النظام العالمي الليبرالي اُعتبرت ثقلاً مقابلاً للقومية على طراز ترامب، واستطاعت بموجب مكانتها الدفاع عن التجارة الحرة والمؤسسات متعددة الأطراف وحكم القانون في غمرة شكوك بشأن إذا ما كانت هذه المبادئ مازالت تمثل أهمية لواشنطن. ومغادرتها البطيئة الإيقاع تترك فراغاً الآن». وأشار «ويت وآن جيران» في تقرير إلى ترحيب مسؤولي إدارة ترامب بمغادرة ميركل في هذه المرحلة السياسية. وجاء في التقرير أن مسؤولاً أميركياً قال:« إن هذا فوز كبير لترامب، فألمانيا هي أكبر اقتصاد في أوروبا، وقد شهدنا في السويد وإيطاليا وفرنسا والمملكة المتحدة في ظل مسعى الخروج (بريكسيت) تصاعد الشعبوية اليمينية في أنحاء أوروبا وعدم رضاء الناخبين عن سياسات الهجرة والاقتصاد».
وأشار «كارل بيلت»، رئيس وزراء السويد السابق، في مقال بصحفية واشنطن بوست إلى أن «ميركل التي ظلت في السلطة في برلين 13 عاماً تمتعت بمكانة كبيرة في ظل سياسة معقدة للتكامل الأوروبي. وهذا يرجع في جانب منه إلى الحجم والوزن الكبيرين لألمانيا، لكن يرجع بدرجة كبيرة للغاية أيضاً إلى شخصيتها وأسلوبها. إنها تنصت دوماً لاهتمامات وحجج الآخرين وتفكك حقائق أي موقف ثم تستكشف بصبر الوسائل الممكنة للمضي قدماً. لم تكن ألمانيا بالتأكيد في عهد ميركل متنمراً على أوروبا بالطريقة التي تُصور بها أحياناً، لكنها كانت وسيطاً حصيفاً».
وكان كاتب هذه المقال مستعداً لإطراء ميركل أيضاً لولا بعض السطور التي لم يستسغها في عمود «بيلت»، وهي «رغم التوقعات واسعة النطاق لحدوث العكس، وخاصة في الولايات المتحدة، تم التغلب على أزمة اليورو واليونان، وخرجت أوروبا بمؤسسات قوية وليس ضعيفة بعد الأزمة الاقتصادية التي تلت عام 2008 وكانت ميركل جزءاً محورياً في هذا». ويوافق الكاتب بالتأكيد على أن ميركل كانت جزءاً محورياً. لكن يبدو له أنه من الوهم تقريباً أن أوروبا بعد الخروج البريطاني (بريكسيت) أصبحت أقوى مما كانت قبل عقد من الزمن. وهذا يثير حقيقة غير مريحة عن تركة ميركل السياسية وهي أن ميركل كانت مدافعاً شديداً عن النظام الليبرالي الدولي لكنها أسهمت أيضاً في كثير من عناصر عدم الرضا عنه.
وبعد أن قرأ الكاتب الرؤية الممتازة عن أزمة منطقة «اليورو» التي قدمها «راندال هينينج» في كتاب بعنوان «الحكم المتشابك: تعقيد النظام الدولي الحاكم والتشكيل الثلاثي وأزمة أوروبا»، يبدو من الواضح له أن تعامل ميركل مع أزمة منطقة اليورو أبرز بأجلى صورة أقوى نقاط قوتها وضعفها. فحين بدأ نطاق الأزمة اليونانية يتكشف، لم تحرك ميركل ساكناً بسبب اقتراب انتخابات محلية في ألمانيا، لأنها لم ترد أن تصبح القضية في مقدمة ومحور الاهتمام. وهذا التقاعس عن التحرك ساعد في تفاقم كل شيء في اليونان وباقي منطقة «اليورو».
فقد حرصت ميركل على ألا يعالج صفقات انقاذ اليونان والدول الأخرى البنك المركزي الأوروبي بل إدارة منفصلة ذات غرض خاص. ورتبت ميركل هذا الأمر لتقيد نفوذ البنك المركزي الأوروبي في عقد صفقات الإنقاذ، وزعمت أنه كان أكثر تهاوناً بكثير عنها. وأصرت على تدخل صندوق النقد الدولي كي يقلل بشكل أكبر استقلال البنك المركزي الأوروبي.
والنقيصة الأساسية في سياسة ميركل هي أنها التزمت باتحاد أوروبي قوي، لكنها اتبعت سياسات «ألمانيا أولاً». ووافقت السنوات القليلة الأولى من الاستجابات على أزمة منطقة اليورو التفضيلات السياسية لميركل ولقيت رد فعل جيداً لدى قاعدة تأييدها المحلية. وجاءت النتيجة في صورة سلسلة عمليات إنقاذ متأخرة عن أوانها وضعت ثقة في غير محلها في التقشف المالي والإصلاح التنظيمي لتخفيف ضغوط السوق على اليونان والاقتصاديات المتضررة الأخرى. ولم يُجدِِِ التقشف نفعاً كما كان مقصوداً، وفشلت الإصلاحات التنظيمية في جعل أي من اقتصاديات منطقة «اليورو»، التي تمر بأزمة لأن تصبح مثل ألمانيا. فلا عجب إذن أن تصبح أوروبا الإقليم الوحيد في العالم الذي نما اقتصاده في الأزمة المالية الأخيرة المعروفة باسم الركود الكبير بدرجة أقل من نموه في أزمة ثلاثينيات القرن الماضي فيما عرف باسم الكساد الكبير.
وهناك أسباب كثيرة لصعود القومية الشعبوية، والأسئلة عن الهوية والهجرة محورية بلا شك في تقديم أي تفسير شامل. ورد «ميركل» على أزمة اللاجئين عام 2015 أظهر أكثر نزعاتها السياسية شجاعة وعملها هذا كلفها سياسياً بلا شك. لكن يجري تقليل دور الأزمة المالية كسبب لنمو شعبوية الجناح اليميني. وميركل تتحمل مسؤولية أكثر من أي سياسي أوروبي آخر عن تدهور أزمة سيئة أصلاً. لقد كانت قيمها السياسية في موضعها الصحيح، لكن سياستها الاقتصادية لم تكن بالمستوى نفسه.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»