طوال الأشهر الثلاثة الماضية، بدا أنّ الصراع على تشكيل الحكومة اللبنانية العتيدة يدور حول محورين: رئيس الجمهورية في مواجهة رئيس الحكومة وصلاحياته ودوره، ورئيس الجمهورية وصهره في مواجهة «القوات اللبنانية». فقد بدا لشهور أنّ رئيس الجمهورية هو الذي يشكّل الحكومة وليس الحريري الذي كُلِّف بذلك من خلال الاستشارات الملزِمة. وفي الدستور أنّ الرئيس المكلَّف هو الذي يشكِّل الحكومة بالتشاور مع رؤساء الكتل النيابية، ثم يعرضها على رئيس الجمهورية الذي يُصدرُها بمرسوم، ويحوِّلها إلى مجلس النواب لمناقشة بيانها الوزاري والتصويت عليها. المتحدثون باسم رئيس الجمهورية قالوا إنّه ليس مجرَّد موقِّع بل هو مُشارك، وهناك الأعراف وروح الدستور، وكلها تدعم موقع الرئيس في كل أمرٍ دستوري، ومن ذلك تشكيل مجلس الوزراء. والرئيس السنيورة والرئيس تمام سلام والرئيس ميقاتي وفقهاء دستوريون قالوا إنّ العادات والأعراف (مثل حصة رئيس الجمهورية) غير مُعتبرة، والاحتكام ليس إلى الرئيس المُلزَم بالاستشارات، بل إلى مجلس النواب، وكتلة التيار الوطني الحر الذي يترأسه صهره، تبلغ ثلاثين نائباً، فلا حاجة للكونترول من جانب الرئيس، وإلاّ فما هي وظيفة مجلس النواب؟!
وعلى أي حال، يبدو أنّ الحريري أرضى رئيس الجمهورية بإعطائه الحقّ في توزير شخصية سنية من حزبه مثلما كان في الوزارة الأولى. ولذلك فقد انخفض النقاش بشأن حصة الرئيس، واندلع الجدال العلني خلال الشهرين الماضيين بين جبران باسيل وسمير جعجع بشأن حصة «القوات اللبنانية» في الوزارة. وتجادل الطرفان بعنف وعلانيةً في أمرين: حصة كلٍ من الفريقين استناداً لنتائج الانتخابات، والاتفاق الخطي بين الطرفين في معراب (2015-2016). الاتفاق الخطي يقول بالمناصفة في الوزارات والمديريات العامة التي للمسيحيين بمقتضى المناصفة بينهم والمسلمين. ووفق حسبة القوات ينبغي أن يكونَ لهم خمسة وزراء مسيحيين أو أربعة ونائب رئيس حكومة. وبعد تشاتُمٍ طويلٍ بين الطرفين، وتراجع وليد جنبلاط عن إصراره على اختيار الوزراء الدروز الثلاثة، واقتناعه بإعطاء رئيس الجمهورية حق اختيار الوزير الدرزي الثالث، أُرغم القواتيون على القبول بثلاثة وزارات ونائب رئيس حكومة. وعلى القبول أيضاً بأن تكون وزاراتهم من الدرجة الثالثة، وليس من بينها وزارة مهمة مثل العدل أو التربية أو الأشغال العامة!
وعلى أي حالٍ فإنّ الحكومة وقد زالت من وجهها كلّ العقبات، ستتشكل الآن، لكن «حزب الله» فاجأ الجميع بالمطالبة بوزيرٍ سنيٍّ ممن نجحوا من خارج كتلة سعد الحريري، وقالوا إنهم يرشّحون النائب فيصل كرامي. المفاجأة الأُخرى أنّ الحريري ورئيس الجمهورية رفضا الأمر بحجة أنّ السنة من الناجحين لا يشكّلون كتلة، بل هم شراذم، والذين يتحالفون مع الحزب منهم نجحوا بأصوات غير سنية تبعاً لقانون النسبية!
قبل ثلاثة أشهر قال لي قريبون من الحزب إنه لا يريد حكومةً في لبنان. وقلت إنّ ذلك غير منطقي، لأنّ الحزب مُحاصَر، والعقوبات عليه وعلى إيران تزداد، وصحيح أنه يسيطر في لبنان، لكنّ الشهور القادمة خطيرةٌ عليه، والستارة الحكومية وإن كانت شفّافة تُفيدهُ ولا تضره، لأنّ الجميع خاضعون، وقد تحدوا من أجل الحزب طوال السنتين الماضيتين الأميركان والأوروبيين والقوانين الدولية. وقبل أيام قال الأمين العام للأُمم المتحدة إنّ الحزب يمكن أن يجرّ لبنان إلى حرب، وإنّ على الحكومة أن تعمد لنزع سلاحه بحسب القرار الدولي 1559، في حين دأب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على القول إنّ الحزب لا يستخدم سلاحه في الداخل!
إنّ كلَّ هذه الاعتبارات ليست بين أولويات الحزب، وإنما هناك اعتبارات وتقديرات إيرانية هي التي تتحكم بقراره. فإيران ترى من مصلحتها أن لا تتشكل في لبنان حكومة، يكون عليها تنفيذ العقوبات التي فرضتها وتفرضها إدارة ترامب وتتطلب إجراءات من جانب الحكومة والمصارف.
الذين يعرفون الرئيس اللبناني ويعرفون رئيس الحكومة المكلَّف، يعرفون أيضاً أنهم يقبلون كلَّ مطالب الحزب، ولو بدا ذلك مضراً بالمصالح الوطنية. أما الحزب والإيرانيون فما يزالون مقتنعين أنّ ارتهان لبنان وسوريا واليمن والعراق، يظلُّ مفيداً لهم في تحدي الغرب ومساومته في الوقت نفسه. ورغم أنّ الدوليين مهمومون بسبب عدم تشكل الحكومة، فإنّ المراقبين يذهبون إلى أنّ الحكومة العتيدة وإن تشكلت فلن تنهض بالأعباء الوطنية، بل ربما زادتها عسراً واستعصاءً.