بدأتُ مسيرتي الصحافية بتغطية حرب أهلية في لبنان، ولم أفكر يوماً في أنني سأنهيها بتغطية حرب أهلية في أميركا. وربما لم نصل إلى هناك بعد، ولكننا إذا لم نقم بالانعطاف الآن، فلا شك أننا سنصل إلى حيث نحن متجهون اليوم، والذي وصفه على نحو جيد السيناتور جيف فلايك يوم الاثنين بقوله: «إن القَبَلية تدمّرنا. إنها تمزّق بلدنا. إنها ليست طريقة تصرف الكبار العقلاء».
صحيح أننا سبق أن عشنا موجات صراع اجتماعي محتدمة منذ الحرب الأهلية الأميركية في 1861. فقد نشأتُ مع اغتيال مارتن لوثر كينج، واحتدام معارك الشوارع على خلفية الحقوق المدنية، وحرب فيتنام. غير أن هذه اللحظة تبدو أسوأ – أقل عنفاً بكثير لحسن الحظ، ولكن أكثر وأعمق انقساماً. فحالياً هناك انفصال عميق يحدث بيننا، وبيننا ومؤسساتنا، وبيننا وبين رئيسنا.
لقد بتنا لا نستطيع إيجاد أرضية مشتركة يمكننا أن نعبّر عن اختلافنا عليها باحترام، والجانب الآخر نراه أنه «العدو». فصرنا نصرخ على بعضنا بعضا على التلفزيون، ونلغي متابعة بعضنا البعض على "فيسبوك"، ونطلق قذائف هاون كلامية على بعضنا البعض على تويتر – فبات الجميع اليوم على ميدان المعركة الرقمي، وليس السياسيين فقط.
وباتت عبارة «آملُ ألا يكون أي منهم هناك» لازمةً تتكرر بوتيرة متزايدة في المجالس المختلفة عبر البلاد، ولم تعد تحيل إلى أشخاص من عرق آخر أو ديانة أخرى، وإنما إلى أشخاص من حزب سياسي مختلف.
ولم يعد ثمة شيء مقدس. فهذا القاضي برِت كافانو، الذي تم ترشيحه في المحكمة الأميركية العليا دافع عن نفسه مؤخراً بهجمات متعصبة بغيضة ونظريات مؤامرة قبيحة من النوع الذي قد تتوقعه فقط من مقدم أحد البرنامج الحوارية على الإذاعة، وليس من قاض بات الآن عضواً في المحكمة العليا. فمن يمكنه أن يتوقع منه الإنصاف والعدالة الآن؟ ثم إن كل هذا الانقسام يحدث في وقت تسجّل فيه أسواق الأسهم ارتفاعاً والبطالة انخفاضاً. فهل تتصور ما سيحدث عندما نواجه الركود المقبل؟ هذه الأزمة تبدو أسوأ من الانقسامات التي شهدناها سابقاً على خلفية حرب فيتنام والحرب الأهلية لأنه حينها كانت ثمة ثلاث قوى كبيرة تحافظ على تماسكنا وباتت مفتقدة اليوم: طبقة متوسطة متنامية، والحرب الباردة، وحزب "جمهوري" متعقل.
وكل هذه العوامل تفّسّر لماذا بات من الصعب جدا التوصل لهدنة في الحرب الأهلية الحالية، ذلك أن ثمة الكثير من الجبهات. فهناك المعركة بين أولئك الذين يشعرون بأن الحلم الأميركي، قد انفلت من قبضتهم وأولئك الذين يستطيعون نقله بسهولة إلى أطفالهم. وهناك المعركة بين أميركيي البلدات الصغيرة في الأرياف وسكان المدن «المعولمين» الذين ينظرون إليهم نظرة دونية، كما يعتقد سكان البلدات الصغيرة. وهناك أيضا المعركة بين أميركيي الطبقة العاملة البيض الذين يشعرون بأن هوياتهم أخذت تُفقد وتضيع في بلد باتت تشكل فيه الأقلياتُ الأغلبيةَ على نحو متزايد والأميركيين الذين يتبنون التعددية الثقافية. وهناك الصراع بين الرجال الذين يعتقدون أن نوعهم مازال يخوّل لهم بعض الصلاحيات والامتيازات والنساء اللاتي يتحدينهم. باختصار، ثمة الكثير جدا من مجالات الصراع.
ثم إننا لم نفقد فقط مخفِّفات الصدمات والوسادات الهوائية الواقية التي كانت لدينا في الماضي، ولكن جيلا من السياسيين صعد إلى واجهة المشهد السياسي، يقوده دونالد ترامب، وجعل من انقساماتنا «نموذج عمله».
ويمكن القول إننا انتقلنا من «التعصب الحزبي»، الذي كان يسمح مع ذلك بتوافقات سياسية في نهاية المطاف، إلى «القبلية»، التي لا تسمح بها، كما يشرح المتخصصُ في العلوم السياسية "نورمان أورنشتاين"، الذي شارك إلى جانب "توماس مان" في تأليف كتاب «الأمر أسوأ مما يبدو عليه: كيف اصطدم النظام الدستوري الأميركي مع المشهد السياسي الجديد للتطرف». وقد يكون من السهل إلقاء اللوم بالتساوي على الجانبين وتحميلهما مسؤولية هذا التحول، يقول "أورنشتاين"، ولكن ذلك ليس صحيحاً. ذلك أنه عقب الحرب الباردة، «أُدخلت السياسةُ القَبلية من قبل نيوت جنجريتش عندما جاء إلى الكونجرس قبل 40 سنة»، ثم طوّرها وجوّدها "ميتش ماكونل" خلال رئاسة باراك أوباما، عندما أعلن "ماكونيل" نيته استخدام "جمهوريي" مجلس الشيوخ لجعل أوباما يفشل كاستراتيجية لإعادة "الجمهوريين" إلى السلطة.
وقد فعلوا ذلك رغم أنه كان يعني قتل مخطط أوباما للرعاية الصحية، الذي بُني على بعض أفكار "الجمهوريين"، ورغم أنه كان يعني نسف مبادئ لطالما دافع عنها "الجمهوريون" – مثل الانضباط المالي، وتحالف أطلسي قوي، والارتياب في النوايا الروسية، ومقاربة متوازنة تجاه موضوع الهجرة – وذلك من أجل جذب قاعدة ترامب الانتخابية واستمالتها.
وعندما أنظرُ اليوم إلى كل الأشخاص الذين يعملون على الدفع بحيواتهم السياسية إلى الأمام وملء جيوبهم من خلال تقسيمنا، لا أملك إلا أن أتساءل: هل يذهب هؤلاء الأشخاص إلى بيوتهم ليلاً في جزر منعزلة حيث لا شيء من ذلك يهم؟ وهل يعتقد هؤلاء الأشخاص حقاً أن أطفالهم لن يدفعوا ثمن السم الذي يبيعونه وينشرونه؟ لا تقلق، إنني أعرف الجواب: إنهم لا يفكرون ولن يتوقفوا عن ذلك.
ما الذي يمكن أن يوقفه؟ عندما تتعاون أغلبية من الأميركيين، الذي مازالوا في يمين الوسط ويسار الوسط، ولا تصوّت إلا لصالح المشرّعين الذين لديهم الشجاعة للمطالبة بوقف ذلك – ولكن الآن، حالاً، وليس عندما يكونون بصدد الاستعداد لمغادرة مناصبهم أو على فراش الموت.
*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»