في أوائل أكتوبر، قبل 25 عاماً، قدم أمير الحرب الصومالي محمد فارح عيديد للجيش الأميركي رؤية لمستقبل معارك هذا الجيش. لكن لا صناع السياسة في واشنطن، ولا القادة في الميدان، كانوا مستعدين للانتباه لما كان يلقي «عيديد» الضوء عليه. ففي ليلتي الثالث والرابع من أكتوبر عام 1993، انتهت عملية عسكرية أميركية لاعتقال «عيديد» بفشل كارثي تمخض عن مقتل 18 أميركياً وأسقط مقاتلو «عيديد» طائرة هليكوبتر من طراز «بلاك هاوك»، وبعد ذلك بقليل انسحبت الولايات المتحدة، لكن هل هناك أي دروس يجب تعلمها من إسقاط «بلاك هوك»؟
الواقع أن الولايات المتحدة لم تتوقع هذا النوع من المقاومة في الصومال. فقد اعترض «عيديد» على وجود أجانب يفرضون نظاماً سياسياً جديداً على بلاده. ومن ملاذاتهم الآمنة في المناطق المكتظة بالسكان في العاصمة الصومالية مقديشو، داهمت قوات عيديد، خفيفة التسليح لكن رشيقة الحركة، القوات الأميركية وقوات التحالف وتحرشت بها على امتداد صيف عام 1993. وتصاعد عدد الضحايا. وبناء على ذلك، أرسل الرئيس بيل كلينتون فرقة مهام من القوات الخاصة إلى مقديشو ومهمتها المحددة هي التخلص من «عيديد»، وكانت قوة المهام الخاصة تتفوق كثيراً على مقاتلي «عيديد» غير النظاميين، قياساً إلى معايير كثيرة مثل التدريب والانضباط وقوة السلاح والقدرة على الحركة. فقد كانت قوات عيديد متخلفة تكنولوجياً، بينما كان لدى القوات الأميركية كل العتاد الذي يشتريه المال.
لكن هذا لم يكن مهماً كثيراً في نهاية المطاف. فقد أثبت «عيديد» أنه أكثر دهاء مما توقع الأميركيون. وفي ست محاولات لـ «انتزاعه» عادت القوات الخاصة خالية الوفاض. وفي المحاولة السابعة، فإن مقاتلي العدو الذين وصفهم الأميركيون بأنهم «مهزولون» و«بلداء» كانوا ينتظرون القوات الأميركية. فتحولت الطريدة إلى مطارد. صحيح أن القوات الأميركية كبدت العدو عدداً من الضحايا أكثر مما تكبدوا هم، لكن الأميركيين في نهاية المطاف انسحبوا من ساحة القتال، بينما بقيت قوات «عيديد»، وأما بالنسبة لـ«عيديد» نفسه، فلم يبق طليق السراح فحسب، بل دعمت مواجهته الدموية مع المقاتلين الأميركيين مكانته.
واعترف بيل كلينتون بالهزيمة وسحب العملية الأميركية برمتها، وظلت الصومال في فوضى. ويمكننا أن نتذكر هذا الحدث الذي جاء في عصر الانتصار الأيديولوجي الأميركي على الاتحاد السوفييتي المنهار حديثاً باعتباره منغصاً طفيفاً دون عواقب حقيقية كبيرة. لكن التمعن فيه يقدم عدداً من الدروس المستفادة للمستقبل.
أولاً: ستكون ساحات القتال المعاصرة على الأرجح مناطق حضرية مزدحمة وليس مناطق مفتوحة قليلة السكان. ونادراً ما ستكون هناك معارك تشارك فيها دبابات في صحراء مفتوحة وتحت سماء تهيمن عليها المدمرات الأميركية وطائرات الهليكوبتر المقاتلة.
وثانياً: استثمار البنتاجون في الحروب التقليدية سيظل قليل الصلة بنوعيه الصراعات التي تواجه القوات الأميركية. والتحدي الأساسي لا يتعلق في الأساس بإلحاق الهزيمة بالجيوش، بل بالسيطرة على السكان. والتهدئة وليس استدامة القتال المحتدم هو ما يستنزف طاقة وانتباه الجنود. والجزء الأكبر من دور المقاتل لا ينطوي على القتل، بل على القضاء على العداء للحضور غير المرحب به للمقاتلين الأجانب.
ثالثاً: إذا وجدت القوات الأميركية صعوبة في التكيف مع مطالب غريبة لمثل هذه الحروب، فإن المسؤولين عن تشكيل سياسة الأمن القومي يجب أن يبحثوا احتمال عدم جدوى الحروب نفسها. ونادراً ما شرح الزعماء الأميركيون، السياسيون أو العسكريون، الغرض الأكبر من هذه الحروب، ولم يذكروا قط موعد انتهائها المحتمل.
فما الداعي لمقتل 18 أميركياً في مسعى فاشل لرسم صورة المستقبل في الصومال؟ وما الغرض الذي وقعت من أجله هذه التضحيات؟ وبعد مرور ربع قرن لم تفقد هذه الأسئلة وجاهتهما، بل أصبحت أكثر إلحاحية. وتأمل بالذكرى يوضح الدروس المستفادة من هذا الحدث الصغير، لكن المفيدة بشدة. ولو بذلت الولايات المتحدة المزيد من الجهد، وتحلت بقدر أكبر من التواضع، لربما اعتبرت من هذه الدروس واستوعبتها. ولو أنها طبقت ما استوعبته في المناورات العسكرية التالية لخفف هذا أو منع الفشل والإحباط اللذين أصبحا هاجسين يسيطران على التاريخ العسكري الأميركي في الآونة الأخيرة. لكن الزعماء الأميركيون جنحوا إلى تجاهل هذه الدروس. وتبين أن هذا إغفال خطير وأن الجنود الذين دأب الأميركيون على الإعجاب بهم دفعوا مقابل هذا ثمناً غالياً.
* مؤلف كتاب يصدر حديثاً بعنوان «غسق القرن الأميركي».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»