كان من المفهوم دائماً أن عملية التنمية أو أحاديث العدالة الاجتماعية ترتبط بصعود مكون الطبقة الوسطى، ودورها الاقتصادي والسياسي معاً. وكثيراً ما شكل دورها في بلاد مثل مصر، وغانا، والسنغال وغيرها رمزاً على درجة تقدم هذه البلدان، بل وكان صعود بعضها إلى مستويات أعلى، يؤدي إلى إفقار الطبقات الشعبية. أذكر أن عهد الرئيس الأميركي إدوارد كيندي، قد شهد تطوراً في التفكير الأميركي في مواجهة النفوذ الفرنسي والإنجليزي في أفريقيا، وكانت الدولتان الاستعماريتان تعتمدان على طبقة المتوطنين أو الإداريين أو فرق الجندرمة العسكرية مما يعرض مستعمراتها للقلق المستمر، مثلما حدث في كينيا وغيرها. وجاءت إدارة كيندي لتطرح مفهوماً جديداً للتنافس يقوم على المساعدة في بناء الطبقة الوسطى، بمساعدات التعليم والصحة، وحتى التدريب العسكري المناسب لتكوين الموالين.
وتدور الأيام ليصبح الرأسمال الأميركي وغيره من الرأسماليات الكبرى لا هدف له إلا استلاب الثروات، وإهمال التطوير الاجتماعي، رغم حرصهم على السياسات الاقتصادية (مثل الانفتاح، والسوق،...) مما أدى إلى تصعيد الطبقات العليا بنسب تتراوح بين واحد إلى عشرة في المئة ممن يسيطرون على 60 و70 % من الدخل القومي، كما جاء مع كثافة في المعلومات في تقرير دولي عن اللامساواة صادر عام 2018، كما أصدرت منتديات أخرى تقارير مشابهة، تكشف لنا كيف استطاعت دوائر رأس المال العالمي مقاومة أية ضرائب تصاعدية محلياً، ومحاصرة برامج التعليم والصحة، حتى انتشرت صورة توزيع الثروات إلى أفضل استفادة في الدول الغربية، وأصبح الشرق الأوسط في معظم هذه التقارير وفي وقت واحد، أدنى مستوى في معيار اللامساواة في العالم (تقرير اللامساواة العالمي عام 2018)، مثل هذا الوضع هو الذي جعل بعض المفكرين يرصدون ظاهرتين:
أولاً: أن الموقف بالنسبة لبلدان العالم الثالث أصبح «غير أخلاقي» رغم معرفتهم بعدم الصلة بين المال والأخلاق! والبعض الآخر قال: إن الشعوب نفسها لم تعد تهتم بالتحليل الاقتصادي الكلي (التأميم والخصخصة والتراكم) بقدر اهتمامها بالاقتصاد الجزئي، مثل الدخول الفردية والتحويلات الاجتماعية، والثروات الفردية...إلخ. أدى ذلك في تقدير البعض الآخر إلى اتجاه قوى الطبقة الوسطى ممثلة في المجتمع المدني، ليس إلى قضايا توزيع الدخل كجزء من مطالبهم الديمقراطية، بقدر انتباههم إلى المطالب الفئوية والنوعية ( المرأة- الجندر- الطفولة...إلخ).
    انتقل الجدل في تقارير أخرى إلى مدى أثر التدخلية في توزيع الدخل أو الاقتصاد الكلي على خطة التنمية، أو مساهمة الطبقة الوسطى نفسها في حركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتذكر هذه التقارير أن البنك الدولي والصندوق وقفا منذ عام 1980 ضد هذا الرابط، تاركين الحبل على الغارب للقائلين بعدم التدخل، لأن التدخل وحده لن يحد من عدم المساواة، وإنما السوق العام هو الذي سيلعب دوره، وحتى عام 2003 سخرت السيدة «كروجر» – نائبة العضو المنتدب في صندوق النقد الدولي - من الحديث عن عدم المساواة..ولكن صندوق النقد الدولي أصدر عام 2017 تقريراً حاملاً نتيجة أخرى لبحوثه تقول إن زيادة ضرائب الدخل على الأغنياء ستساعد في تقليص اللامساواة دون أن يكون لها أثر سلبي على النمو، وتفعل ذلك الضرائب التصاعدية، إذا تمت دون إفراط. ورأى الجميع أن تحسين القدرة على نفاذ الأغلبية إلى التعليم وإلى الوظائف ذات الدخول اللائقة أمر ضروري من أجل علاج الركود وضعف حركة النمو.
    كان ثمة قضية طريفة في هذه التقارير الدولية، على أثر صدور كتاب عالِم الاقتصاد الفرنسي «توماس بيكيتي» (الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين- 2013) أن أعلى ضريبة في العالم كانت 62% عام 2015، وأصبحت مؤخراً 35%. وكان ذلك إثر تحليل عن ضرورة تحسين أوضاع الضرائب للطبقة الوسطى والفقراء، وإذ بالتوصية تشير بعد ذلك إلى أنها لصالح تنمية وضع الطبقة الوسطى –فقط- وتناست التقارير الدولية حال الفقراء! ومع ذلك فإن تقرير اللامساواة لعام 2018 لم يرَ تحسناً على المستوى العالمي أكثر من زيادة نصيب الطبقة الوسطى، الذي كان عام 1980 – 28% من الدخل القومي، وأصبح 33% من الدخل، وأن 75% من السكان الفقراء يدورون حول 10% من دخل بلادهم القومي. لكن تقريراً حديثاً لمنظمة «الإيسكوا» يرى بناء على نموذج إنمائي جديد يجمع الطبقة الوسطى والفقيرة في تحالف ديمقراطي تصبح فيه الأغلبية في مواجهة الأقلية... ويتوجب علينا هنا أن نشير إلى أن المقال هنا لم يعالج تفاعل هذه المفاهيم على المستوى الوطني، لعدم الإغراق في الإحصاءات –‏? ?وظلت? ?تقف? ?عند? ?الدولي? ??ودلالاته? ?أيضاً? ًًًًًًًًً?واضحة.