في مقالتنا الأخيرة هنا، تطرقنا لمسألة المناهج العلمية، ودورها في ضبط العلم خلال مساره الطويل، وعلاقة ذلك بـ«الإشارات اللغوية» المحفزّة على التمسك بما يأتي مع اللغة المحلية من تنبيهات على التشديد حول فكرة أو أخرى، وعلى لفظ يحمل تشديداً في بنيته اللفظية أو الدلالية. وهنا، قد يحدث أن نواجه نمطاً من الاستخدام اللغوي الشعبي، الذي لا يعني غياب دلالات ذكية توحد بين المستمعين وتوحدهم. وقد ازدهرت حالات ومواقف من هذا النمط في أوساط أميَّة لغوياً وحكيمة عقلياً، بدءاً من تلامذة المدارس ومن المعمرين «أصحاب التجارب والمواقف»، إذ إن تطور البشر مقترن بالعمل وبالممارسات المجتمعية الحية والمتنوعة.
وثمة مسألة نظرية ذات حضور في هذا السياق، وهي التي تتجسد بنمو الذاكرة البشرية وباقترانها بمواقف حياتية تنمو وتغدو تجارب مرتبطة، كثيراً أو قليلاً، بالعمل الذي يمارسه البشر، حيث تتكون حصيلة ذلك كله بالتجربة والذاكرة وارتباط الذات الإنسانية بموضوعها.
وينبغي أن نلاحظ هنا أن تحوّل المجتمعات وما يطرأ عليها من تغير يمس الفرد والعائلة والمجموعة، وصولاً إلى الطبقة الاجتماعية وعموم المجتمع، أن كل ذلك مع المدرسة وانتشار الكتاب يصنع رأياً عاماً، بل ينتج مجموعات وأجيالاً وإعلاماً... إلخ، مما يغطي واقع الحال المجتمعي والعائلي والفردي بعموميات ثقافية تشكل ثقافات الأفراد بأنماط من الأيديولوجيات والمعلومات والآراء التي تصنع عقولهم وعواطفهم وآمالهم سلباً وإيجاباً.
ومع التطورات الكبرى في مسيرة الإنسانية، تشكلت العلوم الاجتماعية على إثر نضوج المناهج التجريبية في العلوم الطبيعية، لتتكون قواعد المنهج العلمي الحديث. وعلى هذا الطريق المعقد، كانت العلوم قد نشأت وأسست منظومات يرجع إليها في مناسبات كثيرة. وإن كان ذلك أقد أتاح ويتيح فرص نمو لا محدود للعلوم الطبيعية، فقد بقيت منظومة العلوم الاجتماعية والتاريخية والتربوية خاضعة للتحولات والأحداث أثناء الاضطرابات.
وقد جاء الفيلسوف بيكون، وقدم كتابه «الأورغانون الجديد»، حيث صاغ قواعد المنهج التجريبي بكل وضوح. ثم حاول ديكارت أن يكتشف المنهج المؤدي إلى حسن السير بالعقل، والبحث عن الحقيقة في العلوم.
والآن هناك نوعان رئيسان من المنهج: أحدهما للكشف عن الحقيقة، وهو المنهج التحليلي أو منهج الاختراع، والآخر هو الخاص بتعليم الحقيقة للآخرين بعد اكتشافها، وهو التركيب أو منهج التأليف. وإلى ذلك، فإن أي منهج يتصف بالعلمية يجب أن يبدأ بـ«الأطروحة»، أي «المنطلق» الخاضع للبحث المدقق.
ويلاحظ أن كلود برنار الذي أكد التميز في مناهج العلوم المختلفة، استحالة فصل المناهج بعضها عن بعض في تكوين العلم الواحد.
إن قضية المناهج في العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعة، هي قضية تستند على بنياتها المنهجية، كما على البنيات المشتركة فيما بينها. والحق أن نشأة قضايا مناهج البحث، إنما هي تعبير عن تطور نوعي ليس في الحقل العلمي فحسب، وإنما كذلك على صعيد التطور الحضاري للمجتمعات البشرية المختلفة. وإذا كانت التطورات التي لحقت بالعلوم الطبيعية والإنسانية لها مصادرها في مجتمعات الغرب، فإن السؤال حول تطورات المنهج في العالم العربي يكاد يكون سؤالاً قد أصبح غير ذي أهمية. فعدم التوازن بين الغرب والشرق ترك آثاراً محبطة لشعوب هذا الأخير، مما يظهر في مسارات العالم العربي ومؤسساته وجامعاته، وهي مسارات لا علاقة لها بالبناء الداخلي لهذه المجتمعات.