تظل مشهدية مثول محمد حسان ومحمد حسين يعقوب في صيف 2021 أمام محكمة الجنايات بالقاهرة واحدة من أهم ما يمكن الاستدلال عليه في استخفاف جماعات «الإسلام السياسي» بالعقل الجمعّي، وإنْ كانت مجمل الشهادات الموثقة يمكن تصويرها باعتبارها «حفلة تنكرية» كبيرة بدأت منذ نشأت جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر عام 1928 واليمن عام 1929 ولم تنته، ولا يبدو أن لها نهاية في المدى المنظور، فيما أنكره الدعاة «الصحويون» أمام القاضي لم يكن تهرباً من مواجهة الحقيقة، بمقدار ما كان المرة الأولى التي يقف فيها دعاة «الإسلام الحركي» لمحاكمة معتقداتهم الإيديولوجية، فلم يعتادوا على هكذا مكاشفة لم تحدث حتى مع سيد قطب عندما حُكم عليه بالإعدام نهاية ستينيات القرن العشرين.

منذ أن قدمت «الجماعة الإسلامية» في مصر المراجعات، ضمن ما يصنف أنها صفقة مع النظام السياسي للخروج من السجون بعد حادثة اغتيال الرئيس السادات 1981، ظهرت عند الإسلاميين فكرة التملص من آثامهم بحق الدين الإسلامي أولاً، ثم المجتمعات المنتمية لهذه الديانة السمحاء، حتى ما تلا هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 من تضييق على دعاة الصحوة لم تكن غير مشاهد ساخرة تصدروا فيها القنوات الفضائية، وقدموا صيغة مبتذلة مما أقنعوا فيه الأنظمة السياسية أنها اعتذارات عن فتاوى أصدروها وحتى عن عدم فهمهم لمرويات الأحاديث الشريفة. أفردت الساعات الطويلة من البرامج المخصصة ليظهر فيها رموز «الصحوة» بين المعتذرين للمشاهدين الذين صدق بعضهم أن الاعتذارات كافية لتبييض صفحات دامية من تاريخ طويل من الكتب وأشرطة الكاسيت التي أفرطوا فيها في تكفير المجتمعات وتوزيع الاتهامات لكل منّ تجرأ على محاججتهم. الكارثة وقعت فيما أطلق عليه بـ «الربيع العربي»، فلقد اكتشفت الأنظمة السياسية أنها خدعت، فلا اعتذارات نفعت ولا مخططات احتوائهم نجحت ويبدو أن الأنظمة من بعد العام 1979 وقعت ضحية لخطاب مضلل ومشوش، مفاده أن استرضاء الشعوب يمر عبر عمائم «الصحويين»، حيث نسجت الجماعات الدينية مفاهيم عامة ربطت فيها مصائر الدول بالفتاوى الدينية.

لم تستوعب بعض الأنظمة السياسية أن هذه العلاقة كانت بحاجة لإعادة تقدير موضوعي، تحديداً من بعد أن تشكل تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» من بعد عودة الأفغان العرب.الدين ضرورة للشعوب، وهذه الضرورة لا تعني بالمطلق الخضوع لتيارات الإسلام السياسي، فالجميع يدرك خطرها على كينونة الدول، لذلك فإن المحاكمات لكل الجناة من الدعاة «الصحويين» تبقى تصحيحاً لكل الأخطاء الجسيمة التي وقعت. هذه التيارات تسببت في أجواء تعطلت فيها التنمية، وتناحرت خلالها الشعوب، وتعمقت المفاهيم المشوهة في عقول أجيال زج بها في صراعات ونزاعات عبثية.

والأخطر أن هذه التيارات هتكت الأنسجة الوطنية. أهمية المحاكمات أن فيها رد اعتبار للدين الإسلامي، مع أهمية اتخاذ خطوات عملية في تجديد الخطاب الديني. إن معالجة التطرف والتعصب لن تكون بغير إجراءات تكشف للمجتمعات حقيقة الأدعياء، وأن محاسبتهم فيها اقتصاص عادل يُحدث إجرائياً القطيعة المطلوبة بين حقبة وأخرى، يكون فيه الوعي والمعرفة أسساً مجتمعية. الحفلة التنكرية التي يراد للشعوب أن تقبل بها لا يمكن تمريرها مجدداً، فلقد آن الأوان للدول الوطنية أن تمضي باتجاه تعزيز قيم التسامح والحوار وأن تعتمد ما يتوافق وقيمّ المجتمعات العربية، لقد أثبتت التجربة حقيقة أن الإصلاحات تنجح إذا جاءت من رأس السلطة؛ فهي المعنية والقادرة على ذلك. أما التنكر ثم التملص من المسؤولية، كما فعل «الصحويون»، فخطأ جسيم لا يجب تكراره.

*كاتب يمني