توظف القوى الكبرى الثقافة في العلاقات الدولية والصراع الجيوثقافي بامتياز بعد تعرض العولمة لعوامل التعرية والتآكل. وبالمقابل بدأت الحروب الثقافية العالمية بسبب نقص المرونة الثقافية لدى البعض وإدراك البعض الآخر أنه غزو ناعم لا تسيل به الدماء، وهي معارك ذكية تستطيع الدول من خلالها تحقيق الانتصار تلو الآخر دون أن تلحظ «الثقافة الضحية» أنها تخوض أزمات صامتةً واجتياحات ممنهجة من قبل طرف واحد، والطرف الآخر متلقٍّ سلبي في دوامة هزائم ينتقل إثرها من جيل إلى آخر.. وتتكفل الثقافة التي تمثل الحاضنة البديلة لقيم الثقافة المعتدية بتمهيد الطريق للاجتياح الفكري والثقافي، وسلوكيات فنون الإدارة النفسية والعقلية للحشود التي تجمعها نقاط تجمّع وتجمهر افتراضية يتم اختراقها وتسييرها على غرار الحشود التقليدية، وبالتالي إثارة الفتن والبلبلة ونشر الفوضى وتفكيك الصفوف وصولاً لفقدان الكفاءة الثقافية، والتي تتمثل في عدم القدرة على التواصل المباشر وغير المشروط، وبشكل فعّال وبلغة ومبادئ مفهومة من الآخر، بنهج يتجنب الممارسات العنصرية أو التمييزية مع توفير الفرص المتكافئة للتعبير عن الأصالة غير المحدثة دون الشعور بالدونية الثقافية. 

إن التواصل الثقافي يتم بشتى الطرق كالتجارة والصناعة والتعاون المهني، والتدريب والتعليم والمشاريع المشتركة والمجال التكنولوجي، والفنون والرياضة ومواد ومنتجات الثقافة الشعبية ووسائل التواصل الاجتماعي، والخدمات والمواد الاستهلاكية المختلفة التي ترتبط بتمثيل جيل أو أكثر وتكون بمثابة هوية جاذبة لفئات كثيرة من سكان العالم، ولكن يبقى التعليم أكبر أسلحة الحروب الثقافية في المدارس والجامعات والتي تعكس الثقافة الغربية وتجاربها ورموزها وتراثها، حيث أصبح مرادفاً لكلمة «حضاري»، أي أن كل ما يدور في دوائر الثقافة الغربية هو جدير بالبحث والدراسة والتمجيد والاتباع والتقليد، ولا يكون المثقف مثقفاً في باقي دول العالم إذا لم يكن يفهم ذلك الموروث ويتحدث بالنيابة عنه، وهو ما يكشف عن الأدوار التي تلعبها تلك الظاهرة في تشكيل الثقافات المحلية الناشئة.
إن الأمر يتعلق بتبنّي رؤية أكثر ثراءً وديناميكيةً وتعقيداً من مجرد مطالبة الآخرين بالنظر فيما هو صائب أو مناسب قوله سياسياً، والاقتناع أن الغرب هو المركز، وأننا لا نستطيع العيش من دون المركز، وأهمية مقاومة التشكيك في نقد ودحض حجج مركزية الثقافة الغربية كثقافة مرجعية، وإن تشجيع اللغة والسلوك الأكثر وعياً وانعكاساً للذات وحساسيتها الثقافية هو بالتأكيد لا يعني الثورة ضد قيم الآخرين ورفضها بالمجمل، ولكن فقط ما ليس لائقاً إنسانياً أو ما هو ذو أبعاد إقصائية.
إذاً هناك شيء أكبر يحدث اليوم يختلف عن صراعات القوى العظمى في الماضي ويختلف عن الحرب الباردة، وهذا ليس مجرد صراع سياسي أو عسكري أو اقتصادي بل هو صراع حول السياسة والاقتصاد والثقافة والمكانة وعلم النفس والأخلاق والدين في وقت واحد. وبشكل أكثر تحديداً فهو رفض للطرق المعتادة لفعل الأشياء من قبل مئات الملايين من الناس على نطاق واسع، وتسليط الضوء على أن الغرب يركز على الكرامة الشخصية والبروز الفردي والمادي والحرية بصورة كبيرة.
وأما تركيز بقية العالم فهو ينصبّ على التماسك المجتمعي ومكانة النظرة المجتمعية المشتركة لقضاياه، وهي نظرة تؤمن بأن البشر قوالب ثابتة والثقافات ثابتة لا حراك فيها وغير قادرة على معرفة ما هو الأفضل لها دون وجود ثقافة فوقية توجهها.
الكل يشعر بتداعيات الحروب الثقافية التي تتشابك فيها وجهات النظر المختلفة حول العلمانية والديمقراطية وأساليب الحكم والعيش، مما يفقدنا الثقة في قدرتنا على التنبؤ إلى أين يتجه التاريخ! وفي فكرة أنه عندما تقوم الأمم «بالتحديث»، فإنها تتطور على طول خط يمكن التنبؤ به، وأعتقد أن الوقت قد حان لنفتح عقولنا على احتمال أن يكون المستقبل مختلفاً تماماً عن أي شيء توقعناه، وضرورة توقف عمليات الاستقطاب الثقافي والتنافر القيمي، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى إحداث صدع أعمق في المجتمع الإنساني ككل، وتشجيع الثورات الشعبوية كعرض من أعراض الصراع على القيم والهوية.
* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات