بدأ العمل على دراسة المنظومة القيمية في القرآن الكريم في ستينيات القرن الماضي، وذلك مع محمد عبد الله دراز في كتابه «دستور الأخلاق في القرآن»، وتوشيهيكو إيزوتسو في مؤلَّفه «القرآن والإنسان»، وفضل الرحمن مالك في كتابه «المسائل الكبرى في القرآن».. إلخ. وفي تسعينيات القرن الماضي وما بعدها، ازدهرت دراسات القيم في الأديان، تبعاً لمقولة هانس كينغ المشهورة: لا سلام في العالم إلا بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلا بالاتفاق على أخلاقٍ عالمية.لقد ارتبط ذلك بما سُمّي موجة عودة الدين، وحينها أقبل فلاسفة ولاهوتيون، مثل بول ريكور وليفيناس وتشارلز تايلور، على إعادة قراءة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، باعتبار أن قيمه في الأصل هي قيمٌ دينية، وأنّه من الأفضل القول بالتداخل وليس بالافتراق والتقاطع.

ثم إنّ الأجواء فيها تحديات كبيرة للنظام الدولي نتيجة المطامح والمطامع، فصارت المقاربة السائدة للمشكلات عن طريق المؤسسات الدولية ليست ذات جدوى دائماً من حيث التقدم باتجاه مواجهة التحديات واستعادة الأمن العالمي والتعايش بين الناس. لتلك الأسباب كلها انطلقت موجة من المقاربات للقرآن الكريم من وجهات نظرٍ قيمية وأخلاقية. والحق أن قيم الرحمة والتعارف والعدالة والسلام ليست غريبةً عن القرآن، بل هي أصيلةٌ فيه. وفي مطالع القرن الحادي والعشرين انصرفتُ مع فريقٍ من الزملاء في مجلة «التسامح» العمانية إلى دراساتٍ في منظومة الأخلاق في القرآن، وتوصلنا بالمتابعة الإبستمولوجية إلى أن مفردات المنظومة فيها: المساواة والرحمة والعدال والمعروف والسلام والخير العام. والاستناد في ذلك إلى مرات الورود في القرآن باللفظ أو بالمعنى، وإلى المواقع في السياق وفي النسيج القرآني العام.

وقد تبين بالدراسات أن كل هذه القيم تواصلية، وأنه يمكن من خلال الفهم الواسع لها إعادة كتابة التفسير القرآني، كما يمكن الاستناد إليها للدخول في حواراتٍ دينيةٍ مثمرة. وكان شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت يَعتبر أن الجانب الأخلاقي في خطاب القرآن جرت الإفادة منه في الفقه وفي مقاصد التشريع، لكن لم تجر الإفادة منه بعد في المجال القيمي العام، وفي القضايا الأخلاقية الكبرى، لذا فهو يستحق المزيدَ من الاهتمام من أجل كشف أبعاد أخرى واعدة للقرآن. لقد ضربنا مثلاً لذلك بالمفهومين القرآنيين: مفهوم المعروف ومفهوم التعارف.. فالمعروف هو ما تعارف عليه الناسُ واتفقوا أو اصطلحوا على السير وفق قواعده في التآلف وتبادل الاهتمامات والمصالح والعيش المشترك.

وهو في القرآن مفهومٌ عالميٌّ، بمعنى أننا نتشارك مع العالم في الاصطلاح عليه، وعلى هذا المحمل فهو المشترك الإنساني الذي يطل على الأصل الإنساني الواحد، والذي صارت إليه وثيقة الأخوّة الإنسانية التي أصدرها البابا وشيخ الأزهر من أبوظبي 2019. أما التعارف الوارد في الآية القرآنية: «إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، فهو يعني السعي التواصلي للمعرفة المتبادلة، والمعرفة تزيل الجهلَ والأوهام، وتصنع الاحترام والمودة. وقد صدرت في الآونة الأخيرة بحوث ودراسات عن مفهوم السلام في القرآن، وهناك دراسات أقدم عن مفاهيم العدالة. لقد صار الملف القيمي في الدراسات القرآنية شديد الأهمية والاعتبار.

*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية