في رمضان تحلو مصاحبة القرآن الكريم والحديث عنه، ولعل الحديث عن حضور هذا الكتاب العظيم في حسّ الفلاسفة ممّا لا يُتداول فيه القولُ كثيراً، رغم أن علاقة الفلاسفة بالقرآن لم تكن علاقة هيّنة، يُترجم ذلك استبطانهم لروح القرآن، وممارستهم فعل التّفلسف وفق مبادئه العظمى.
حقاً، لم يكن القرآن الكريم أصل العلوم العقلية الفلسفية، وإنّما كان أصلاً في نشأة العلوم النّقلية الوضعية، لكن فلاسفة الإسلام، بعد أن كرعوا من مؤلفات الفلاسفة الذين دلفوا إلى المجتمع الإسلامي، عبر جهود «بيت الحكمة»، وجدوا في القرآن الكريم مُنبِّهاً على هذه العلوم، ودافعاً لاكتسابها، فكان هذا الكتابُ الإلهي مرجعهم في كلّ ما كتبوه، حيث كانوا يعتقدون أنّ رُوحَ القرآن لا تُناقضُ روح التّفلسف، وأنّ بين معقول الفلسفة ومنقول الوحي وشائج قوية في المقصد لا تُفصم، وعُرى متينة في الغاية لا تُنْقَض.
ينطلق فعل الكندي من مبدأ يؤكد أنّ كلّ ما جاء به محمد عليه السّلام ينسجم والمقاييس العقلية التي لا يجحدها إلا جاهل، وأخذ «فيلسوفُ العرب الأول» على عاتقه بيان هذا المبدأ من خلال تفسيره الفلسفي أواخر سورة يسن، ووظّف الإرث الأرسطي لإثبات فكرة التّوحيد التي عليها مدارُ رسالة القرآن. ليقدّم البيّنة على توافق المعقول والمنقول.
لم يكن الفارابي بعيداً عن روح القرآن الكريم، فقد أدار مشروعه الفلسفي على فكرة الكمال الإنساني، وأن المدينة الفاضلة يُدِيرُها حَاكم يجمع إلى جانب النبوّة الحكمةَ، وعَمِل ببيانات فلسفية بديعة على إنشاء نظرية للنبوّة أفحم بها منكري النبوة في عصره. والفارابي بهذا كان قريباً من روح القرآن، ومن نواميس مدينته الإسلامية.
لكن الفيلسوف الذي أدار حياته على القرآن لم يكن، غير ابن رشد، رغم ما ذهب إليه بعضهم، شططاً، من بُعد فلسفة ابن رشد عن روح القرآن الكريم، فقد اعتبر ابن رشد، مستلهماً في ذلك روح القرآن، أن أعظم عبادة هي التّفكّر في الموجودات، الطّريقُ اللّاحِبُ لمعرفةِ الله تعالى وعبادته. فالقرآنُ كلُّه، كما يقول، دعاءٌ إلى التّفكر والاعتبار، وقد سمحتْ له نصوص الفلاسفة، على اختلاف مشاربهم، من ممارسة عبادة النّظر والتّفكّر.
وانطلاقاً من تدبّر القرآن الكريم استخرج فيلسوف قرطبة دليلين مهمّين للدِّلالة على وجود الله، اعتبرهما دليلين بسيطين وبرهانين يُغْنِيَان الجمهورَ من المسلمين عن أدلّةِ الفلاسفة البرهانية، وأدلّةِ المتكلمين المعتاصة، وهما دليلا العناية والاختراع، فضلاً عن دليل الحركة الذي استخرجه من قصة إبراهيم عليه السلام في نظره في ملكوت السماوات والأرض، وكان فيلسوفُنا يَأمُل أن يتفرَّغَ لتصنيف خاص في هذه المعاني يستوفي استخراجها منَ القُرآن الكريم، ما يدلّ على ارتباط فيلسوفنا بكتاب الله.
إن كتابات ابن رشد الفلسفية خاصة «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت» طافحةٌ بنصوص القرآن الكريم، وقدْ تَفنّنَ في تأويلها على مناحي شتَّى، ولا عجب في ذلك، فالقرآن حمّالُ أوجه، وقابلٌ للتّثْوير لتضمُّنِّه علمَ الأوَّلين والآخرين، كما أفادَ عبدُ الله بن مسعود في نصيحة له، وهو ما صنعهُ فلاسفتنا وأبدعوا فيه، وإن بدا لبعض الدّارسين أنَّهم شطُّوا في التأويل، فالحقَّ أنّ المجالَ مجالُ اجتهادات مرتبطة بمنطق النص ولغته وإطاره الشَّرْعي، وليست اجتهادات منفلتة، كما صنع بعض الغلاة من فرق أهل الإسلام.
إن القرآن الكريم هو الكتاب السّماوي الوحيد الذي أعلى من شأن العقل، وجعل من الدّعوة إلى التّفكر بِنْيَتَهُ العميقة، ولذا لا نستغرب إذا رأينا استثمار الفلاسفة، بحساسية مرهفة، لهذا الكتاب المعجز، سواء في النّقليات أم العقليات، وهو مُعْطَى جدير بالملاحظة والاعتبار لو كنّا منصفين.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية