لستُ ممَن يظن أن كلَّ شيء يبدأ بأمة دون سواها، هي الأصول وغيرها الفروع. فإذا المعتزلة مثلوا سقوط الأجسام(العاشر الميلادي) بـ«التّفاحة»(النّيسابوريّ، المسائل في الخلاف)، ثم مثّل بها إسحق نيوتن(ت: 1726م) عملية الجاذبيّة، وشاعت له (السابع عشر والثامن عشر)، ليس معنى هذا أنه انتحل المعتزلة، إنما العقل قادرٌ على إنتاج العلم، وهو إنساني بطبيعته، فما فكر به المعتزلة فكر به نيوتن، لا وجود لمركزية ولا لاحتكار.
كذلك قرأت في كتاب «همس الدَّم.. قصص الثورات» لإيريك دورتشميد (المدى 2020)، كلمة رددها قائد الثَّورة الفرنسيّة، لجان جاك روسو(ت: 1778): «يولد الإنسان حراً، ولكنه في كلّ مكان يجر سلاسل الاستعباد». معلوم، أنَّ روسو صاحب «العقد الاجتماعيّ» الشّهير، عاش وقال مقولته في القرن الثّامن عشر، عصر النهوض الأوروبيّ، فهل اطلع روسو على عبارة عمر بن الخطاب(اغتيل: 23 هجرية)؟
لا نعتقد ذلك، فالرواية أول ما جاءت في «فتوح مصر والمغرب» لعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم(ت: 257 هجرية): «مذ كم تعبّدتم النَّاس، وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً» (فتوح مصر والمغرب)، ثم رواها: الثَّعالبيّ(ت: 429 هجرية)، في «الشّكوى والعتاب»، والمفسر المعتزليّ محمود الزّمخشريّ(ت: 537 هجرية) في «ربيع الأبرار ونصوص الأخيار»، وابن حمدون(ت: 562 هجرية) في «التّذكرة الحمدونيَّة»، وبعدها انتشرت في كتب مَن أتى بعدهم، رويت عن سندها الصَّحابي أنس بن مالك(ت: 93هجرية). هل تُرجمت مِن هذه الكتب في زمن روسو؟! مِن الصَّعب الإقرار بذلك، إنما الفكر الإنسانيّ، وكل مَن يفكر بمصالح النّاس، يرتقي إلى هذا الكلام، وليس هناك أرض عاجزة، ولا شعب عاجز من التقدم الإنسانيّ، خلاف ما يريده أصحاب المركزيات، فما نحته الأوروبيون مِن أفكار، نحته قبلهم غيرهم.
في مقابلة أخرى، بدأت إدانة العبوديّة تُعلن بكنائس بريطانيا، فصدرت وثيقة لندن الجماعية(1783م)، جاء فيها: «قضية رفاقنا في الخليقة: الأفارقة المقموعين»(ديلبيانو، العبودية في العصر الحديث). إذا التقى روسو مع عمر بن الخطاب، فالإنجيليون التقوا مع علي بن أبي طالب(اغتيل: 40 هجريّة)، في كتاب تكليفه لمالك الأشتر(اغتيل: 38 هجريّة) والياً على مصر: «أَشْعِرْ قَلْبَكَ المَحَبَّةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ، وَالرَّفْقَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُوْنَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعَاً ضَارِيَاً يَغْتَنِمُ أكْلَهُمْ، فَإنَّمَا هُمْ صِنْفَانِ: إمَّا أخٌ لَكَ فَي الدَّيْنِ، أَوْ نَظِيْرٌ لَكَ في الخُلُقِ، يَفْرُطُ مِنْهُم الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُم العِلَلُ، وَيَأْتِي عَلَى أَيْدِيْهِم العَمْدُ وَالخَطَأْ»(نهج البلاغة).
قد يقول بعضهم: هذا كلام الشَّريف الرَّضي(ت: 406 هجرية)، جامع ومحرر النّهج، وأنّ النص لم يأت عند الأقدمين، جاء عند المتأخرين على زمنه: ابن حمدون(ت: 562هـ) في (التّذكرة الحًمدونيّة، وبعده النّويريّ(ت: 733هـ) في (نهاية الأرب في فنون الأدب) ثم القلقشنديّ(ت: 821هـ) في كتابيه (مآثر الإناقة، وصبح الأعشى). لنعطي القائل الحقّ، ولكن ما هو البعد الزمني بين وثيقة الكنيسة، وما نفترض كتبه الشّريف الرّضي، أليس ثمانمائة عام؟ إذن هو وليد هذه المنطقة، وكذلك الحال مع مقولة عمر بن الخطاب.
إزاء ما تقدم سنواجه رأيين، مشرقاً ومغرباً لا يلتقيان: العادمون للتّاريخ، فما جاء في أمهات التاريخ الإسلاميّ مجرد نصوص مسرحيّة عندهم، وما التفوق في الماضي والحاضر إلا لأوروبا. الثّاني: العادمون لغيرهم: لا تاريخاً فكرياً لغيرنا، وما الحضارة الأوروبيّة وصناعتها إلا مِن إعجازنا! والاثنان يهربان مِن واقع أنّ الأمم حيّة كافة.
يُشار إلى قضية أخرى على هاش المقال، تلفت النّظر، ونحن نعيش الهجاء الطّائفي، النَّابع مِن ضمائر مشكوك بإنسانيتها، وعقول يابسة حواضن للجهل، هل يُعقل، أنَّ عمراً وعليّاً، صاحبي النَّصين الإنسانيين، وما يُلمس مِن رقي حضاري فيهما، يجري قحمهما كذباً وخداعاً، في الطَّائفيّة الرّخيصة، المشتعلة مِن على أعواد المنابر؟
*كاتب عراقي