نشب سجال كبير في لبنان على مستوى الزعامات بعد استعمال بعض المسيحيين لمقولة: «ثقافة الحياة، بوجه ثقافة الموت». حسن نصر الله اضطر للرد على هذه العبارة بحدة. جزء كبير من مشكلة بناء أي دولة عدم تحديد الهوية المصاغة والمستهدفة. وفي لبنان يتضح المثال جلياً.
المشكلة ليست في الطوائف وتعددها، كل البلدان فيها أديان وطوائف وبعدد شعر الرأس، من هندوسية، إلى بوذية، ومسيحية، وإسماعيلية، ويهود، وشيعة ودروز، بل بلد مثل الهند فيه مئات اللغات والعادات المتنوعة.
المشكلة في استراتيجية العيش المراد، وفي تجاوز معضلة بناء الهوية الجامعة. الجنسية جزء من الهوية وليست كل الهوية، ذلك أنها تنبني على ثقافة مجموعة بعضها بني بوعيٍ والآخر تم توارثه، ولكن المشكلة في لبنان أن الخط الأساسي اللبناني الليبرالي القديم وضُع إزائه خط جديد تمت صناعته منذ أوائل الثمانينات، عرف لاحقاً بخط «المقاومة»، وفي الرياضيات الخطان المستقيمان لايلتقيان أبداً.
في الثلث الأخير من القرن العشرين كان الحديث عن «صراع الحضارات» هو الضاغط، ألقيتُ من قبل ورقة عن صراع الهويات بين الشرق والغرب، صموئيل هنتنغتون لم يتراجع عن نظريته «صراع الحضارات» وأصلها مقالة مطوّلة نشرها مستفهماً في «فورين أفيرز» عام 1993، في السطر الثاني من المقالة ذكر عبارة «نهاية التاريخ» عنوان مقالة لفرانسيس فوكوياما نشرت في العام 1989 بمجلة «ناشيونال إنترست» قبل تطويرها لكتابٍ عام 1992.
بعد الألفية تصاعد الحديث عن «صراع الهويات» وبخاصةٍ بعد تصاعد أحداث العنف، وإزياد حالات الكراهية، والتنافي المتزايد بسبب صعود اليمين المسيحي، وإرهاب الإسلام السياسي المعروف بالغرب. بدأ الحديث بجديةٍ حول الهوية، وتداخل في هذا النقاش ساسة لهم خلفيات فلسفية مثل إيمانويل ماكرون (وهو تلميذ بول ريكور) ودارس للفلسفة، ومنهم ذو خلفية أدبية مثل أمين معلوف، وآخر فيلسوف ضليع مثل إدغار موران، وبعض منظّري «الإخوان» مثل طارق رمضان. نقاش الهوية ازداد وتصاعد.
فيلسوف الهويّة داريوش شايغان، ألّف كتابه المهم «هوية بأربعين وجهاً»، وله محاضرة سابقة صغيرة نشرت عام 1998 بعنوان:«أوهام الهوية»، ولعلها نواة اهتمامه الذي ازداد فيما بعد. يعتبر شايغان أن:«الفضاءات التي تصنعنا فضاءات متنوّعة غير نقية. لم تعد جذورنا واحدة، ولم نعد نعيش وحدنا في أرضٍ مغلقة، إننا ريزومات متصلة بالآخرين، وثقافاتهم وعوالمهم، ومداركهم المتنوعة. هذه الحال تجعلنا حلزونات تحمل بيوتها على ظهورها، بمعنى أننا ننمو في فضاءاتٍ مفتوحة، وأسلوب حياتنا يحدد طبيعة رؤيتنا، إننا بحسب الأواصر التي ننشئها مع المجالات الثقافية، نستطيع التموضع في المكان بمناحٍ مختلفة».
الخلاصة، أن الهوية أساسية في بناء الدولة، ومن دون الاهتمام بترتيب أسس صياغة هذه الهوية، فإن النزعات الداخلية سواء كانت عرقية أو قبَلية أو دينية، هي التي ستهيمن على المجتمع، بل وربما ساهمت في تفتيت مؤسسات الدولة، وهذا مشهود في الدول التي فشلت في صناعة الهوية، ومن ثم ساهمت في تفريغ المجال العام وإتاحته لصعود الطائفية، ومثال لبنان والعراق واضح وماثل للعيان.
*كاتب سعودي