تمثّل دولة الإمارات العربية المتحدة، منذ عقود، نموذجاً للمجتمع الكوزموبوليتاني المتنوع والمتعدد الثقافات؛ فمنذ تأسيس الاتحاد في عام 1971 بدأت دولة الإمارات خطط تنمية طموحة، وأصبحت بمرور السنوات المتعاقبة جاذبةً للعمالة الوافدة من جميع أنحاء العالم؛ حتى إنها أضحت في السنوات الأخيرة إحدى أكثر دول العالم جذبًا للاستثمارات الأجنبية؛ ومن هنا تكوَّنت تركيبة سكانية فريدة من نوعها، يمثل فيها الوافدون النسبة العظمى من السكان، وتشكَّلت فسيفساء ثقافية فريدة.
وتشير البوابة الرسمية لحكومة دولة الإمارات العربية المتحدة إلى أن عدد السكان زاد من 4.1 مليون نسمة في عام 2005 إلى نحو 10 ملايين نسمة في نهاية عام 2021، وأن عدد المواطنين بلغ نحو مليون نسمة؛ ما يعني أن هناك تسعة ملايين إنسان -ينتمون إلى أكثر من 200 جنسية وثقافة مختلفة- يعيشون معاً على أرض دولة الإمارات؛ واستطاعت سياسة الدولة المعتمدة على التسامح والتعايش جعل نمط التسامح والتعايش حاكمًا للعلاقة بين جميع هذه الجنسيات.
ولا شكَّ في أن التلاقح الثقافي يَحدُث حتماً بين الثقافة الوطنية الإماراتية وتلك الثقافات، وأن ذلك ينعكس أثره في كثير من مفردات الهُوية الثقافية للمجتمع الإماراتي؛ ولذا سأحاول رصد هذا الأثر وانعكاسه الإيجابي والسلبي على العديد من مكونات الحياة الإماراتية.
يُعد قطاع التعليم العنصر المجتمعي الأهم والأكثر تأثيراً وتأثراً بالتعدد الثقافي. ونظراً إلى التركيبة السكانية المتعددة الجنسيات والثقافات؛ فقد تعدَّدت المدارس ذات المناهج الأجنبية؛ وعلى سبيل المثال يضم قطاع التعليم الخاص في إمارة أبوظبي 13 منهاجاً أجنبيّاً إلى جانب المنهاج الإماراتي؛ ومن هنا ندرك أن المدارس ذات المناهج الأجنبية تلعب دوراً محوريّاً في تشكيل الهُوية الثقافية للشباب. وإلى جانب طبيعة المناهج؛ فإن المدارس تجمع طلاباً من مختلف الجنسيات والخلفيات الثقافية؛ ما يساعد على تعزيز التفاهم، والتبادل الثقافي بينهم. ومن خلال التعليم الشامل والأنشطة الثقافية المتنوعة تقدم المدارس ذات المناهج الأجنبية للطلاب فرصاً فريدة للتعرف إلى ثقافات مختلفة وتقديرها. ولا يسهم هذا التفاعل الثقافي في توسيع آفاق الطلاب فقط؛ بل يعزز الاحترام المتبادل والتعايش السلمي أيضاً؛ ما يساعد على بناء أجيال أكثر تسامحاً وفَهْماً للتنوع والتعدد الثقافي.
تلك هي الصورة الإيجابية التي نراها من واقع وجود المدارس ذات المناهج الأجنبية؛ ولكنْ تبقى هناك تأثيرات أخرى تمثل تحديات لا بدَّ من فهمها ووعيها من أجل مواجهة تداعياتها، وعلاج آثارها بصورة تقلل الضرر الواقع إلى الحد الأدنى الممكن.
ويمثل تحقيق التوازن بين الهُويات المتعددة في المدارس ذات المناهج الأجنبية تحدياً للطلاب المواطنين الذين يسعون إلى الحفاظ على هُويتهم الثقافية، إلى جانب تكيُّفهم مع التأثيرات الثقافية الجديدة؛ فقد يواجِه الطلاب صراعاً داخليّاً حين يحاولون فهم قيم وتقاليد مختلفة ودمجها بحياتهم؛ ما قد يؤدي إلى شعور بالحيرة أو بالانقسام الثقافي.
كما أن الاندماج الاجتماعي يُعد تحديًا لبعض الطلاب، وخاصة عندما يتكوَّن المجتمع المدرسي من طلاب ذوي خلفيات لغوية وثقافية مختلفة؛ وهذا التنوع قد يؤدي إلى شعور بالعزلة أو الانفصال أيضًا. وربما يواجِه هؤلاء الطلاب صعوبات في التواصل، وتكوين صداقات؛ ما يؤثر في تجربتهم التعليمية والشخصية.
وعلى الرغم من أن التفاعل الثقافي في بيئة متنوعة قد يكون مفيدًا لتطوير الفَهْم والتسامح -كما أوضحتُ سابقاً- فإنه يتطلب دعماً وتوجيهاً من الأسر والمعلمين أيضاً؛ لمساعدة الطلاب على التنقل بين الديناميكيات المعقدة للتعدد الثقافي الذي يسود البيئة التعليمية.
وهنا لا بدَّ أن أُثمّن إصدار دائرة التعليم والمعرفة في أبوظبي سياسة الاعتبارات الثقافية، التي أراها خطوة في الاتجاه الصحيح نحو تعظيم الإيجابيات ومواجهة التحديات الناتجة من التعدُّد الثقافي في مراحل التعليم التأسيسية على وجه التحديد.
*أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي