أبت القيادة الرشيدة لإمارة أبوظبي إلا أن تخلع على جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، بُردة عزيزة النّظير في منطقة الخليج، أُسَميّها: البُرْدَة الفلسفية، وذلك لما طمحت إليه همّتها من استشراف للعلوم العقلية الفلسفية. فبعد أن تمّ اعتماد مركز الدراسات الفلسفية باعتباره مركزاً يعنى بالبحث العلمي الفلسفي، وتنظيم محاضرات وورشات ومؤتمرات تؤسس لدرس فلسفي قوي، دشّنت الجامعة هذه السّنة ورشين قوّيين: القسم الجديد، الذي طالما انتظره المهتمون بالفلسفة والغيورون عليها، وهو«قسم الفلسفة والأخلاق» لإنشاء عقول فلسفية شابة تؤمن بأهمية العقل النّقدي، وشحذ الجمالية الأخلاقية في نفوسها. ثم مجلّة المركز، «مجلة الدراسات الفلسفية» من أجل ترسيخ تقاليد البحث العلمي الفلسفي في الجامعة.
ولعل أهم حدث عرفته الجامعة السنة الماضية، 2022 2023، وتجدّده بأريحية كبيرة هذه السّنة، هو مؤتمر الفلسفة والأخلاق، وهو مؤتمر دولي كبير يُنظّمه مركز الدّراسات الفلسفية، ويشرف على إدارته طاقم من الإداريين الغيورين على الفلسفة، والذين لا يألون جهداً في تقديم أقصى ما يمكن من الجهد التنظيمي الرفيع تحت قيادة مدير الجامعة الدّكتور خليفة الظاهري الذي رفع مؤتمر هذه السّنة، مشكوراً، إلى درجة عليا من الأبّهة العلمية والفخامة التّنظيمية، وكان له، من قبل، فضل اقتراح موضوع المؤتمر الذي لقي تجاوباً كبيراً من لدن الباحثين.
إذا كان مؤتمر السّنة الماضية قد وُسم بمؤتمر الفلسفة والأخلاق، فإن مؤتمر فبراير المقبل 2024 قد اتّخذ قضية «الفلسفة ورهان التّقدم النّظري والاجتماعي» موضوعاً له، ويسعى المؤتمر لفحص مفهوم التّقدّم فلسفياً عبر الجَولان في تاريخ الفلسفة وقضاياه وإشكالاته الكبرى، بدءاً بالفلسفة اليونانية التي تؤمن «أن العقل حكم العالم» نفيا للعبث في الطبيعة الخاضعة لقوانين العقل والمحاطة بالعناية الإلهية، مروراً بالفلسفة الإسلامية التي جعلت من العقل إدراك الأشياء بأسبابها، وعصر النهضة مع «بيك دولا ميراندول» وصنعه لمفهوم الكرامة، إلى العصر الحديث، حيث أصبحت فلسفة التاريخ مع هيغل عنصراً مكوناً للفلسفة، وأصبح للعقل معه تاريخه وزمانه الخاص به، وكذا الفلسفة المعاصرة بامتداداتها المختلفة، وقد سكنت هذه المعالجات، التي سَيُقدّمها جمهور واسعٌ من أرفع الباحثين، سياقات مختلفة، من السياق الفلسفي إلى السياق الإبستمولوجي إلى السياق الجمالي، إلى السياق الإيكولوجي، نُشداناً للإحاطة بالجوانب المعرفية والعملية لمفهوم ملتبس في تاريخ الفكر.
يتميز مؤتمر فبراير للفلسفة والأخلاق بحضور ثلة من جِلَّة الأكاديميين الدّوليين من مختلف بلاد العالم، عرباً وعجماً، يجتمعون كلهم على المائدة الكونية للفلسفة في أبوظبي، عاصمة الفلسفة في بلاد الخليج بما توليه لـ«محبّة الحكمة» من عناية واحتفال كبيرين.
إن رحلة الفلسفة في مؤتمر الفلسفة الدولي الكبير، ستكون على بساط الفلسفة العربية الإسلامية لتجول بها في بلاد اليونان، مع فلاسفته العظام، وفي عصر النهضة وقبله عصره الوسيط مع فلاسفته اللاهوتيين، وفي الفضاء الفلسفي الحديث والمعاصر، مع فلاسفته الأقوياء، لوصل الفلسفة الإسلامية بتاريخها الطويل وبيان أن تفاعلها مع الخطاب الكوني لم ينقطع ولن ينقطع..
إن قطار التّقدم الذي سيجمعنا يوم 6 و7 فبراير في السّعديات، إن شاء الله، سيأتي محمّلاً بأخبار عن فلسفة عربية إسلامية قديمة في عتاقتها، منفتحة على عصرها، مستشرفة مستقبلها البهي، مستقبلاً تريد أن تكون فيه مهماز تقدّم وأُفُق تطوّر، فلسفة، لا تكف عن تقديم المفاجآت العلمية للمهتمين، والآثار الجليلة لعشّاق الدّرس الفلسفي في شموليته الإنسانية.
فمرحباً بضيوف جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية الكبار، ومرحباً بالمهتمين ومُحبِّي الدّرس الفلسفي، مرحباً بهم في أبوظبي،عاصمة الفلسفة الغراء.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية