في عام 1964 زار المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي مصر، وألقى محاضرة في جامعة القاهرة، ثم أتبعها بأخرى في جامعة الإسكندرية.
في محاضرته بجامعة القاهرة تحدث توينبي عن مفهوم «الانتلجينسيا»، وقال إنها كلمة لاتينية لها استخدام روسي، وهى تعني في الثقافة الروسية «مجموعة الناس الذين يعدّون أنفسهم رسلاً ووسائط.. بين الحضارة القديمة لبلادهم وحضارة العالم الحديث».
كان «بطرس الأكبر» في روسيا أول من دعا لوجود طبقة الانتلجينسيا، لكي تأخذ الحضارة القديمة لبلاده بأسباب الحضارة الحديثة لأوروبا، وكان ذلك هو ما فعله الميجي في اليابان، ومحمد على في مصر. أي التوفيق بين ما كان في بلادهم من تقاليد وقيم، وما هو كائن في العالم المتقدم من علم وتكنولوجيا.
يمثل العلاّمة عبد الله بن بيه نموذجاً معاصراً لرؤى التوفيق بين الروح والمادة، وبين المسجد والحداثة. إنّه واحدٌ من كبار وسطاء الحضارة في عصرنا.
في هذا الإطار.. انعقد الملتقى الرابع للمؤتمر الأفريقي للسلم في العاصمة الموريتانية نواكشوط تحت رعاية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وهو الملتقى الذي حضرته نخبة من علماء أفريقيا، وفيه تم منح جائزة أفريقيا للسلم لرئيس جمهورية غامبيا «آدام بارو»، لدوره في ترسيخ قيم التعايش في بلاده.
على مدى ثلاثة أيام، تحدث المجتمعون في موضوع بالغ الأهمية «التعليم العتيق في أفريقيا.. العلم والسلم»، وهو حسب وصف العلامة بن بيه رئيس «مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي»، ورئيس منتدى أبوظبي للسلم «محطة جديدة على دروب السلم، وفي إطار البحث الدائم عن الوئام والأمن والعافية والسكينة».
لقد استمعتُ في هذا الملتقى المميّز لكلمات رصينة لعلماء وباحثين وساسة، والذين عبّروا بجلاء عن دور التعليم العتيق في أفريقيا، في حماية المجتمع وصوْن الحياة، وحفظ الأوطان.
وقد مضتْ مشاركتي في الملتقي في هذا السياق، وكان من بين ما قلت: إن تعليم الكتاتيب في مصر، والتي كانت تدرّس الحساب واللغة العربية بجانب تحفيظ القرآن الكريم، كان له دور كبير في إعداد النشء لمستوى تعليمي يجعلهُ قادراً على قراءة الكتب وكتابته الخطب، ولقد أسهمت الكتاتيب إسهاماً كبيراً في العملية التعليمية والقيمية في مصر، كما كان لها دورها في تجهيز الأكثر كفاءة للانطلاق في الدراسة الدينية بالأزهر الشريف، أو الدراسة المدنية بالمؤسسات المختلفة.
وليس عجيباً هنا القول بأن الإمام الأكبر حسن العطار شيخ الأزهر في عهد محمد على باشا، كان له دور كبير في حركة التحديث المصرية، كما كان لتلميذه رفاعة الطهطاوي دورٌ كبير في حركة الترجمة والانفتاح على الغرب، ثم أصبح لتلميذه الإمام محمد عبده دور رائد في تجديد الخطاب الديني، والإفادة المتبادلة بين الحضارات.
إن رؤى الانتلجينسيا المسلمة في الحوار الثقافي والتفاعل الحضاري كان الخط الرئيس على امتداد العالم الإسلامي، ولايزال حاضراً حتى اليوم. وقد كان الأستاذ المحفوظ بن بيه، أمين عام «منتدى أبوظبي للسلم»، موفقاً في مشاركته في المائدة المستديرة بمنتدى دافوس 2024، والتي ترأسها «كلاوس شواب» مؤسس المنتدى، وذلك في استخدامه ذلك التعبير الأخّاذ «عناق الحضارات».
إن ما يحتاجه العالم اليوم وهو يشهد تقدمًا غير مسبوق، كما يشهد تحديات غير مسبوقة.. هو وقف الحروب وتعزيز السلم.. ومنع عربة العالم من السقوط من أعلى الجبل.