في أوائل دراستنا الجامعية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، كنّا على موعد لحضور محاضرة في القانون الدولي. عالم القانون الموسوعي الدكتور عز الدين فودة، تفحصّنا جميعاً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ثم قال: يا إلهي.. كل هؤلاء يريدون مستقبلاً!
كان وقْعُ الجملة صادماً على مسامعنا، لاسيما وأن كثيراً منّا يريد ما هو أكبر من مجرد المستقبل، فمن الثروة إلى السلطة إلى الشهرة.. تتنوّع أهداف طلاب وطالبات التحقوا للدراسة بواحدةٍ من كليات النخبة المصرية.
كان أستاذنا يقول ذلك على سبيل الدعابة والتحدّي معاً، فقد كان يهدف لاستفزازنا للعمل الجادّ، والمثابرة اللانهائية. لكن ما كان دعابةً وتحفيزاً هنا كانت توازيه آلاف الأحاديث المحبطة واليائسة في كل مكان، معظم ما كنّا نسمع كان سلبياً، فالحديث عن الفساد والمحسوبية والوساطة لا ينقطع، وقصص تحطيم الموهوبين وكسر شوكة المتميّزين تبدو كمسلسلٍ مكسيكي بلا نهاية.
كانت المكافآت المحدودة التي تقاضيناها في بدايات حياتنا بعد الجامعة، تعزّز كتائب الخوف واليأس المحيطة بنّا، كما كانت صعوبات بناء الحياة لأشخاصٍ عصاميّين تبدو كجبال الهيمالايا.. بلا سقف.
في الطريق.. من ذلك الحين وحتى اليوم.. سقط بعضنا، وواصل معظمنا، ووصل كثيرون إلى مناصب رفيعة.. كانت تبدو خيالاً جامحاً في تلك الأثناء.
تذكرت هذه الخاطرة، وأنا أعود لقراءة مذكرات الزعيم الألماني الأسبق «غيرهارد شرودر»، والذي يحمل عنوان «قرارات مصيرية.. حياتي في دهاليز السياسة».
حكم شرودر ألمانيا (7) سنوات ما بين «هيلموت كول»، و«انجيلا ميركل».. وقد غادر السلطة بعد انتخابات مبكرة، كان يمكنُ ألا يدعو لها، كما كان يمكنه البقاء بعدها.
ولد شرودر في أسرة فقيرة جداً عام 1944، قبل عام واحد من هزيمة ألمانيا النازية. يقول شرودر: «كنّا جوعى».. كان معظم الألمان جوعى، وكان زوج والدتي يأتي بالخبز واللحم الذي سرقه من عمله مع الاحتلال البريطاني. وكان أحد أقاربنا يعمل في ورشة خراطة، كان يزورنا وهو يقود دراجة بخارية.. كنّا نعتبره من الأثرياء».
يواصل شرودر:«كنّا.. أمي وزوج أمي ونحن خمسة إخوة من أبويْن، نعيش معاً في شقة صغيرة من غرفتين، الحمام في الخارج، والجدران رقيقة، أقل صوت يخرق الجدران، وإذا اصطدمت الكرة بالجدار، فالكل يسمع. دورة المياه بدائية، وهى مخصصة لعدد كبير من السكان. ثم يقول شرودر في عبارة بليغة تختصر كل شيء: «كان أحسن وقت بالنسبة لي هو الصباح.. لأنني أخيراً سوف أفرّ من المكان».
ثم يحكي شرودر عن والدته التي زرعت القوة في قلب الضعف: «كنا نتفرج على كأس العالم في مقهى في قرية مجاورة، وكنت أتسلل سرقة، لأن المشاهدة تكون بالمشاريب، وأنا لا أستطيع دفع ثمن أي شراب.. كانت أمي خادمة، ولكنها كانت تزرع فينا الأمل: لا يأس أبداً، غداً أفضل.. إياكم والضعف».
كم هي ملهمة حياة «غيرهارد شرودر»، الذي قطع طريقاً شاقاً من الوَهَن إلى القوة، ومن الجوع إلى السلطة، ومن الجدران الرقيقة إلى الجدران السميكة. إنّ هذا الملمح الإنساني من حياة الزعيم الألماني الأسبق، هو مصدر إلهام كبير للذين يواجهون تحدياتٍ قاسية، ولكنهم لا ييأسون ولا يحقدون.. بل ينهضون ويعملون.
ما أسهل أن يذرف الإنسان الدموع، وما أصعب أن يجفّف الأحزان.. وينطلق.
*كاتب مصري