ذات نهار.. قال لي الدكتور أحمد زويل.. إن حياتي خارج العلم تحتوي على نصيبٍ وافر من الموسيقى والرواية، وداخل الموسيقى تمثل أم كلثوم المساحة الأكبر، وداخل الرواية يتنافس نجيب محفوظ وغارسيا ماركيز مع آخرين على اجتذابي للقراءة.
ولما عملتُ مع الدكتور زويل على كتابة مذكراته «عصر العلم»، حاولتُ أن تكون قصة حياته هي قصة العلم في عصره، وارتأيت معه أن السرد القصصي الطابع، هو الأفضل للقارئ، والأنسب للعرض.
وكان من بين ما قُلنا - في أثناء زيارة للسودان، كتبنا فيها الفصل الأخير: إن تقديم أيّ نص في شكل قصصي يكون أكثر جاذبية، وحتى العلم يكون تقديمه كحكاية تلو الأخرى، تروي إنجازاً تلو الآخر، وثورةً علمية تلو الأخرى، وهي طريقة تقرّب العالِم من القارئ، وتطوي مسافة قاحلة بين العلم والحياة.
لم يكن المنهج الذي اتبعناه في كتاب «عصر العلم» تأليف الدكتور أحمد زويل وتقديم الأستاذ نجيب محفوظ، وهو الكتاب العربي الوحيد الذي يضم اثنيْن من الحائزين على جائزة نوبل، استثنائياً بأيّ حال، فالسير الذاتية بطبيعتها لا يمكنها الخروج بسهولة بعيداً عن الإطار القصصي، كما أن الجهود الرائعة التي بذلها مؤرخو العلم قد رسخّت ذلك النهج في السّرد.
لقد كان طبيعياً أن تحظى عناوين مثل «قصة الفلسفة» و«قصة الحضارة» و«قصة العلم» بانتشار واسع، فالحكي هو الأقرب إلى النفس، ثم إنه متجذّر في وعي البشر جميعاً، وربما من دون استثناء. فليست الثرثرات الهائمة بين العائلة والأصدقاء سوى قصص متعاقبة، وليست المكالمات اليومية عبر الهاتف، ودردشات الحافلات والقطارات والطائرات، وأحاديث المقاهي والمطاعم والنوادي، سوى بحر شاسع من القصص والحكايات، ذات البداية والنهاية، وذات الموضوع، وربما التوصيات والدروس المستفادة.
يبدأ التاريخ القصصي للإنسان من بواكير العُمر، حيث قصص الطفولة التي لا تنتهي، وهي قصص متنوعة، من التسلية إلى البهجة، ومن الرعب إلى التحفّز، ومن العِبَر والحِكَم إلى التوجيه والموعظة.
تكاد لا تخلو الحياة من الاستماع إلى قصص الأبويْن أو الجدّيْن أو الأقربين، وهي تمتد من حقائق العلم إلى الخرافة، من قصص التاريخ الملهمة إلى حكايات الأرواح والأشباح وعجائب المخلوقات التي تتربّص خلف الباب.
أتذكر قصص والدي التي كانت دوماً عن الأنبياء والصالحين، وعن عواقب عمل الخير والشر، وما الذي ناله الصالحون أو أُصيب به الطالحون، بينما كانت والدتي تفضّل قصص الرعب، وفي مقدمتها «أُمنا الغولة»، والجنيّة التي تسكن النهر وتخيف الأطفال غير المهذبين.
وفيما بعد.. شرعتُ أقرأ القصص والروايات، متأثراً بمكتبة منزلنا الممتلئة بالكتب والخالية من النظام، وبقصص الوالديْن في الدين والدنيا.
لقد اطلعتُ مؤخراً على عروض شيقة لكتاب صدر في جامعة كولومبيا عام 2023 بعنوان «التفكير القصصي.. العلم الجديد للذكاء السردي»، وفيه يطرح مؤلفه «أنغوس فليتشر» رؤيتَه في أن الإنسان حكّاءٌ بطبعه، وأن السرد هو مكوّن رئيسي في الخطاب البشري.
لقد أُعجبتُ بالعنوان الرئيسي «التفكير القصصي».. ذلك أنّنا في الواقع لسنا سوى رُواة، وقصّاصين وحكّائين، وقد لا تكون أحاديثنا اليومية سوى حكايات مكتملة أو ناقصة، مُحكمة أو مترهلة، صادقة أو خادعة.. حقائق معرفية أو أساطير الأوليّن.
يا عزيزي.. كلنا أدباء.

*كاتب مصري