لا تحزن على العولمة، فالتدفق المستمر للسلع والخدمات ورؤوس الأموال والخبرات عبر الحدود الوطنية بين البلدان لم يتوقف تماماً. كما أن الاقتصاد العالمي لم يتجزأ لدرجة يتعذر معها إصلاحه. لا بل إن بعض التحولات التي يعرفها مجال الاستثمارات، وبدلاً من أن تَفتكَّ الصناعة الأميركية من النفوذ الصيني، ربما تعمل على تعزيز هذا الأخير في سلاسل التوريد. 
بعض المصطلحات الرائجة مثل إعادة التعهيد، والتعهيد لدى بلدان صديقة أو حليفة، والتجزيء.. تعرف انتشاراً واسعاً، وتسمح بتوفير إطار موجز لتطورات قد تبدو تدريجيةً إن نظرنا إليها بمعزل عن غيرها. وقد بات من الممكن استخدام مثل هذه المصطلحات بأمان في حفلات دافوس دون خوفٍ من التساؤلات. غير أنه من الممكن أن تعاني أيضاً من بعض الانتكاسات: فقد ارتفعت التجارة بين الولايات المتحدة والصين إلى مستوى قياسي العام الماضي، في تحدٍّ لكل الكتابات حول الانفصال. كما أن هناك عيباً آخر يتمثل في أن العبارات التي تسعى لجذب الانتباه لا تُلقي بالاً للاختلافات الدقيقة، فإرسال البضائع قد يكون بلغ ذروته، لكن الخدمات تبدو في حالة ممتازة جداً. وعلاوة على ذلك، فإن السوق الأكثر عالميةً، ونقصد بذلك سوق تداول العملات، تضخمت إلى أن بلغت رقماً مذهلا هو 7,5 مليار دولار يومياً، وفقاً لبنك التسويات الدولية. 
كتابٌ جديدٌ صادر عن مركز أبحاث السياسات الاقتصادية وصندوق النقد الدولي يبحث هذا النوع من التوترات ويسعى إلى وضع الاضطرابات التي شهدتها السنوات القليلة الماضية في إطارها الصحيح. أجل، إن التدفقات التجارية وتوزيع الدولار يشهدان تحولا كبيراً. لكن هذا التحول يمكن أن يكون عصياً على الفهم، ومتفاوتاً، ويحدث بطرق تجعل تبني التسميات الشعبية أمراً عسيراً ومثيراً للإشكاليات. ثم إن هذه التحولات لم تبدأ مع دونالد ترامب أو وباء كورونا. وهذا سيجعلها أطول أمدا، وبالتالي، يجعل آثارَها أقل قابلية للتنبؤ. ويتعلق الأمر هنا بميدانٍ مختلفٍ عن التسعينيات، وهو عقد تميّز بتوسعٍ متواصلٍ في آسيا والكتلة السوفييتية السابقة لعلاماتٍ تجاريةٍ مثل «ستاربكس» و«مايكروسوفت» و«بوينغ»، وبتقدمِ سلاسل توريد تقودها شركات صناعة السيارات اليابانية وشركات صناعة الرقائق الأوروبية. المشهد المعاصر يتميز بأجواء مختلفة، غير أنه لا يصل إلى حد إعادة كتابة التاريخ الاقتصادي. وفي هذا الإطار، يعترف مدير الأبحاث في صندوق النقد الدولي، بيير أوليفييه غورينشا، في الكتاب الإلكتروني، بمتانة النظام، على الرغم من وجود اتجاهات مثبطة:
فعلى الرغم من كل الحديث حول تراجع العولمة أو نهايتها، إلا أن التجارة أثبتت خلال السنوات الأخيرة قدرتها على الصمود في وجه العديد من الصدمات، والاقتصاد العالمي مازال على درجة عالية من الترابط والتكامل. وحتى حينما ننظر إلى التجارة بين الصين والولايات المتحدة، حيث العلاقات التجارية هي الأكثر توتراً، نجد أن واردات الولايات المتحدة من الصين في عام 2022 أعلى بأكثر من 30 في المئة عما كانت عليه في عام 2017.. وعليه، فهل الأمر كله يتعلق بـ«تكتيكات للتخويف»؟ ليس تماماً، فعلى الرغم من أننا لم نصل بعد إلى عالم مجزّأ، إلا أننا نلاحظ تصدّعات مهمة في النظام. 
وفي هذا السياق، يشير جورينشاس إلى أن واردات الولايات المتحدة من المنتجات الخاضعة للرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، وأبقى عليها جو بايدن، انخفضت بشكل ملحوظ. كما أنه على الرغم من أن تدفقات رؤوس الأموال ظلت بدون عراقيل عموماً، إلا أنها بدأت تعكس الروابط الاستراتيجية والاقتصادية بين الدول، إلى الحد الذي أصبح من الممكن معه التمييز بين الاثنين. وفي الأثناء، أخذت السياسة الصناعية، التي كانت تُعد من مخلّفات الحرب الباردة، تعود وتنتعش من جديد. 
وإذا كانت بعض هذه العناصر معروفة ومألوفة، فإن الجواهر الموجودة في القسم المتعلق بسلاسل القيمة والاستثمارات الأجنبية المباشرة من الكتاب الإلكتروني هي التي تثير الاهتمام. ذلك أن بعض أكبر المنتصرين في السباق على الاستثمارات الأجنبية المباشرة الأميركية، مثل كوريا الجنوبية وكندا، هم من حلفاء واشنطن. أما الخاسران النسبيان، فهما الصين و-على نحو مفاجئ - فيتنام. ولئن كان الجانب المتعلق بالصين معقولا ومنطقياً، فإن فيتنام كثيراً ما كان يُشاد بها لكونها الفائز في الصراعات التجارية. هذا البلد لديه تاريخ طويل من العلاقات المتوترة مع جارته (الصين) وبات يميل إلى الولايات المتحدة بشكل متزايد. ومؤخراً، قام بايدن بزيارة إلى هانوي لمباركة عودة الدفء إلى العلاقات الثنائية. 
المزيد من التفاصيل ترِد في فصل من تأليف كارولين فرويند من جامعة كاليفورنيا في سان دييجو وخبراء اقتصاديين من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فقد وجدوا أن الرسوم الجمركية تتسبب في نوع من الانفصال بين الولايات المتحدة والصين، لكنها لا تؤدي إلى توقف الاعتماد على ثاني أكبر اقتصاد في العالم. بل إن العكس ربما هو الصحيح، بالنظر إلى تضاعف الروابط غير المباشرة. فلخدمة الزبائن الأميركيين الذين يرغبون في مصادر متنوعة، ما زالت هذه البلدان الثلاثة بحاجة إلى الأشياء، أو مكونات الأشياء، المصنوعة في الصين. وبعبارة أخرى، فإن الخبرات أو المجالات المتخصصة لا تنمو ولا تتطور بين عشية وضحاها. 
وترى فرويند ومعاونوها توترات كبيرة بين الكفاءة والرغبة في فك الارتباط. ففي ورقة قُدمت في منتجع «جاكسون هول» التابع للاحتياطي الفيدرالي الأميركي، في أغسطس الماضي، أشارت لورا ألفارو من كلية هارفارد للأعمال وديفين تشور من كلية توك لإدارة الأعمال التابعة لكلية دارتموث إلى فكرة مماثلة مؤداها أنه سيكون من الصعب افتكاك المصانع التي تُعد الصين مالكها النهائي من سلاسل القيمة.
إذ على الرغم من تراجع الاعتماد الأميركي المباشر على الصين، إلا أن حصة واردات الصين في الدول «الصديقة»، مثل الاتحاد الأوروبي والمكسيك وفيتنام، قد ازدادت. وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن تعمد الصين إلى تكرار استراتيجيات بلدان أخرى للالتفاف على القيود السياسية عن طريق الإنتاج المحلي في الولايات المتحدة من خلال الاستثمارات الأجنبية المباشرة (كما فعلت اليابان في السبعينيات والثمانينيات)، فإن الشركات الصينية تعمل على زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة ومحطات الإنتاج في فيتنام والمكسيك في مجالات حيوية. 
وعليه، فإن السوق الوحيد الصاعد في هذا العصر ربما هو سوق المصطلحات اللافتة التي يمكن أن تزيّن أغلفة مجلات رصينة. للأسف، يمكن لتلك المصطلحات أن تحجب بقدر ما تنير. غير أن حالات التجزؤ الاقتصادي والمالي، إن كان ذاك هو ما نشهده حقاً، قد تؤدي في النهاية إلى تسليط الضوء على مدى الترابط الموجود بين الناس والأسواق في الواقع.


ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»