كان الأمر أشبه بطفرة جينيّة فلسفية غير مسبوقة. كان شوبنهاور زميلاً لهيجل، حيث عمل كلاهما أستاذاً للفلسفة في جامعة برلين، وكان فاجنر يراسل شوبنهاور باستمرار، كما كان شوبنهاور يلتقي جوته في الصالون الثقافي الذي تقيمه والدة شوبنهاور.
كان هناك في هذه الطفرة أيضاً إيمانويل كانط، كما كان هناك نيتشه وكارل ماركس.. وآخرون!
كانت هذه الأسماء ملء السمع والبصر، لكن بعضاً منهم لم ينل المكانةَ التاريخية التي حصل عليها إلاّ بعد رحيله، وكانت مؤلفاتهم في حياتهم تبقي عدة سنوات دون مبيعات لائقة.
حسب مؤرخي الفلسفة، فإن كتاب «فينومونولوجيا الروح» لهيجل، وهو واحد من أهم أطروحاته، طُبع منه (750) نسخة، واستمرت هذه الطبعة دون أن تنفد لمدة (13) عاماً كاملة.
وبدوره فإن كتاب شوبنهاور «العالم إرادة وتمثُّل»، وهو الكتاب الذي صدر عام 1818 وامتدحه الفيلسوف نيتشه، قد بيعت منه (250) نسخة في عدة سنوات، حتى أن بعضهم يزعم أن النسخ الأخيرة تمّ استخدامها كمادة للتغليف!
يذهب الأديب العالمي ماريو فارجاس يوسا إلى أن جان بول سارتر كان يعدِل الفيلسوف الألماني هايدجر، وأن قامة سارتر الفلسفية كانت بالقدر ذاته للقامات الفلسفية الألمانية الكبرى. وتحدّث «يوسا» مؤخراً عن أن سارتر لم يعد حاضراً ولا جذاباً في فرنسا كما كان من قبل، وأن بائع كتب عجوز التقاه يوسا، وكان فيما قبل يشتري منه أعداد مجلة «الأزمنة الحديثة»، تلك المجلة المرموقة التي سيطرت سنوات على المشهد الفكري في أوروبا، قد أخبر «يوسا» بأن سارتر لم يعد موجوداً في أرفف المكتبات، ولا مطلوباً لدى القراء، وأن البعضَ يعتبره شيوعياً ستالينياً انتهى دوره وعصره.
رفض «يوسا» أن يكون سارتر مجرد موضة، وأن يكون إبداعه الأدبي والفلسفي ودوره السياسي مجرد حقبة غابرة، لم تعد العودة إليها مطلوبةً من أحد.. لا في فرنسا ولا في أوروبا.
وفي نقاش مميّز لمقال «يوسا» رأى الكاتب الأستاذ سمير عطا الله أن سارتر يستحق ما آل إليه، ذلك أنَّه كان عاشقاً للشهرة، ولم يكن رفضه لجائزة نوبل إلاّ لجلب المزيد منها، وقد لعب سارتر دوراً في فلسفة الحقد والفوضى، وجعل العقل الوسطي متهماً ومتخلفاً، ثم ذهب باليسار إلى العدميّة.
كان سارتر مؤسسة ثقافية كبرى لا جدال بشأن حجمها وتأثيرها، وكانت الكثير من مواقفه السياسية مواقف تقدميّة وأخلاقيّة، لكن ما تم ذكره بشأن تغذية فلسفة الحقد والفوضى، ووضع العقل الوسطي في دائرة الاتهام كان خطأً جسيماً بحق.
ولطالما عانى «العقل الوسطى» من الجميع.. من المتطرفين دينياً والمتطرفين لا دينياً، ومن المتطرفين سياسياً والمتطرفين فكرياً. كان العقل الوسطي هدفاً لحشودٍ كبيرة من المتعصبين.. ولا يزال كذلك.
ذات يوم كتبت إحدى المجلات الفرنسية: «هل كان سارتر دائماً على خطأ؟».. والإجابة بالتأكيد هي: لا. لكن التطرف النفسي، والانفلات الوجداني، وإعلاء مفاهيم اللامسؤولية والفوضوية والعدميّة.. أخطاء لا يمكن غفرانها.
لا يُقاس الفيلسوف بما يمتلك من إبداع في التنظير، ولا بامتلاكه ناصيةَ الكلِم.. بل يُقاس بما أفادَ قرَّاءَه وعصرَه.. معرفةً، وحكمةً.. وإضافةً للحياة.

*كاتب مصري