في مثل هذا اليوم من مارس 2003، بدأ غزو العراق من قبل أميركا والتحالف الذي تقوده. الغزو، الذي يُعد واحداً من أكبر إخفاقات السياسة الخارجية في التاريخ الأميركي، بُني على معلومات استخباراتية مغلوطة ووهمٍ بأن الولايات المتحدة تمتلك الوسائل لتدبير عملية انتقالية بعد الحرب. فكيف أمكن حدوث ذلك؟ ولماذا انخرطت إدارة جورج دبليو. بوش في مثل هذه المغامرة العسكرية غير الموفقة؟
ميلفن ليفلر، الذي يُعد أحد أبرز المؤرخين الدبلوماسيين الأميركيين، يتناول هذين السؤالين في كتابه المهم «مواجهة صدام حسين.. جورج دبليو. بوش وغزو العراق»، الذي يعتمد على مصادر أرشيفية أميركية وبريطانية وعلى العديد من الحوارات مع مسؤولين أميركيين. ويخلص إلى أن كلاً من القرار غير الموفق بغزو العراق والغياب المقلق للتخطيط للاحتلال الذي تلا ذلك، كانا نتيجة خليط من الخوف والقوة والغطرسة. 

  • غزو العراق 2003.. مزيج القوة والوثوقية والخوف

هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية مثّلت منعطفاً حاسماً. فالرئيس بوش وأعضاء إدارته الآخرين كانوا يخشون ضربةً قاتلةً أخرى. وكانوا يشتغلون تحت وطأة شعور ثقيل بالذنب، لأنهم لم يمنعوا الضربات التي استهدفت البنتاغون في واشنطن ومركز التجارة العالمي في نيويورك. وكانوا يؤمنون بأن نمط حياة أميركا بات في خطر. 
ليفلر، الأستاذ الفخري لمادة التاريخ الأميركي في جامعة فرجينيا، يقيّم إدارة بوش عبر عدسات خبرته العميقة في الأمن القومي الأميركي، ويعتبر أن «الحربَ العالمية على الإرهاب» كانت تهدف ليس إلى تعقب الإرهابيين وملاحقتهم عبر العالم، ولكن أيضاً إلى حماية الديمقراطية الأميركية ومنع تحول البلاد إلى دولة سلطوية. كان العديد من الخبراء والمعلّقين يحاججون، وقتئذ وبعده، بأن بوش كان يسعى إلى تصدير الديمقراطية إلى الشرق الأوسط وأماكن أخرى. لكن على العكس من ذلك، يذهب ليفلر إلى أن بوش ومستشاريه «لم يكونوا يتوقون إلى الترويج للديمقراطية بقدر ما كانوا يسعون للحفاظ عليها في أميركا». بيد أنهم كانوا متشبّعين ب«شعور بصلاح وعظمة استثنائيين»، وكانوا يؤمنون بتفوق «نظام الرأسمالية الديمقراطية الأميركي». وهذه الوثوقية هي التي شجعت استراتيجيةً آثرت نشر قوة أميركا العظيمة لحماية البلاد ونمط حياتها. والهجمات الإرهابية غذّت هذه الوثوقية الزائفة وأعمت الإدارة عن الإشكالات الأخلاقية والاستراتيجية التي كانت تواجهها. 

الكتاب يناقش بتفصيل كبير العملية التي أدت إلى قرار الإطاحة بصدام حسين، واحتلال العراق، وتحمّل المسؤولية المباشرة عن الفترة الانتقالية التي أعقبت ذلك. وفي ما يبدو تفنيداً لفكرة منتشرة على نطاق واسع، يحاجج ليفلر بشكل متكرر عبر الكتاب بأن بوش كان صاحب القرار. فقد كان بوش هو الذي قرر التركيزَ في بداية الأمر على أفغانستان، رافضاً ضغط وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبَه بُول ولفويتز للذهاب إلى العراق.
وخلال ال18 شهراً بين هجمات 11 سبتمبر وغزو العراق، تم التفكير في عدة خيارات، ووفقاً لليفلر، فإن اختيار الحرب لم يكن مؤكداً ولا غير قابل للجدال. وكان الاعتقاد المشترك، داخل الإدارة وكذلك بين الحلفاء وخبراء مراقبة الأسلحة، هو أن العراق ما زال يمتلك برامج أسلحة دمار شامل سرية. والظروف العالمية الجديدة جعلت من إمكانية عراق ممتلك لأسلحة دمار شامل أمراً أكثر خطورة. ولئن لم يكن هناك أي دليل على وجود علاقة بين النظام العراقي و«القاعدة»، فإن مجرد إمكانية استيلاء هذه الأخيرة على أسلحة دمار شامل كان يبرر التحرك في نظر الإدارة. إذ «لم يكن هناك تهديد يثير قلق بوش ومستشاريه أكثر من احتمال وضع الإرهابيين أيديهم على أسلحة دمار شامل»، يكتب ليفلر. 
كانت المعلومات الاستخباراتية غير قاطعة، وبعضها كان مفبركا، كما اتضح لاحقاً. غير أنه لا أحد في الإدارة كان يريد المجازفة. وفي وقت عمل فيه بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير معاً، اختار الرئيس الأميركي استراتيجية «الدبلوماسية القسرية» الشرسة. إذ كان يعتقد أن التهديد بعمل عسكري سيحمل صدام حسين على الامتثال لقرارات الأمم المتحدة، والسماح للمفتشين الدوليين بدخول البلاد من جديد، والتجرد من الأسلحة في نهاية المطاف. وبهذه الطريقة يمكن تحقيق تغيير النظام في العراق إما من خلال تغيير موقف صدام حسين أو من خلال تنحيته من السلطة بالقوة. 
ولئن كانت تبدو متماسكة نظرياً، فإن مقاربة الدبلوماسية القسرية ولّدت سياسةً كانت في كثير من الأحيان متصلبةً وغير متسقة. إذ كان هناك توتر بين التهديد بعمل وشيك والحاجة لإتاحة الوقت لعملية تفتيش معقدة عن أسلحة الدمار الشامل بعد استئناف الجهد في خريف عام 2002. وكان العمل من خلال الأمم المتحدة، كما كان يحث بلير ووزير الخارجية الأميركي كولن باول على ذلك، ضرورياً من أجل اكتساب شرعية ودعم دوليين. لكن ذلك أبطأ العمليةَ وأزعج الكثيرَ من المتشددين داخل الإدارة الذين كانوا يحبّذون التحرك بشكل أحادي الجانب، مثل نائب الرئيس ديك تشيني. ومما زاد من تعقيد الأمور أنه إذا كان بوش هو صاحب القرار، فإنه كان غير قادر على فرض الانضباط على إدارة مختلة تنخرها الانقسامات والصراعات والغيرة، كما يقول ليفلر، الذي تؤكد دراسته أن الصراعات كانت واضحة للعيان حينذاك، لا سيما الصدام بين البنتاغون المتشدد ووزارة الخارجية الأكثر ميلاً إلى الحذر.
وكانت هناك حاجة لمزيد من الوقت لاكتشاف أنه لم تكن هناك أي برامج سرية لأسلحة الدمار الشامل في العراق. والمعلومات الاستخباراتية المغلوطة، والاهتمام المحدود ببناء الدولة في العراق، وغياب الدعم الدبلوماسي حتى من حلفاء قدامى للولايات المتحدة مثل ألمانيا، والمعارضة الدولية الواسعة للحرب.. كل هذا كان ينبغي أن يدفع نحو قدر أكبر من الحذر، يقول ليفلر. لكن بدلاً من ذلك، يبدو أنه عزّز الشعورَ بأن الحقَّ إلى جانب أميركا، وهذا الشعور هو الذي أفضى إلى الحرب في النهاية: «الشعور بالمظلومية والصفاء الأيديولوجي»، على حد تعبير ليفلر، الذي أثّر في سياسة بوش في العراق.

محمد وقيف

الكتاب: مواجهة صدام حسين.. جورج دبليو. بوش وغزو العراق
المؤلف: ميلفن ليفلر
الناشر: أوكسفورد يونفرستي برِس
تاريخ النشر: فبراير 2023

عن خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»