عام مرّ على الأزمة في أوكرانيا والتي كانت لها تأثيرات هائلة على مسار تحوّل الطاقة عالمياً، بعد أن كشفت هشاشة الاعتماد على مصدر واحد للطاقة، لكنها أكدت بالمقابل الحاجة لتنويع مزيج الطاقة على مستوى العالم. وحدثت تغيرات جذرية في العلاقات القائمة على الطاقة التي استمرت لفترات زمنية مديدة. وتحولت الكثير من خطوط الإمداد بالطاقة، من دون رجعة ربما، إلى خيارات جديدة مختلفة، وتشكلت شراكات مغايرة. باختصار، شهدنا خلال عام واحد فقط تغيراً غير مسبوق في منظومة الطاقة العالمية.
وكما أشارت الحوارات التي تمت خلال مؤتمر ميونيخ الذي انعقد مؤخراً، فإن هذا التغير في قطاع الطاقة لم يقتصر على إمدادات النفط والغاز، بل سيمتد إلى حلول الطاقة الخضراء مستقبلاً.
وقد أكد المناخ الجيوسياسي المستجد عالمياً أهمية إحداث تحول شامل للطاقة، لكنه بين أيضاً أن ذلك التحول هو حالياً على المحك. فزيادة أسعار المعادن تؤثر على مسار تطور تقنيات الطاقة النظيفة والمتجددة، وهو ما يعني أن الدول الساعية إلى تحقيق الحياد المناخي قد تضطر الآن لاعتماد سياسة الخطوط الخضراء التي تمنع التراجع عن خططها وتضمن استمرارها.
العام الماضي شهد أيضاً تأثر الدول النامية أيضاً من حيث سهولة الوصول إلى الطاقة بتداعيات المسألة الأوكرانية. وزيادة أسعار الطاقة رفعت تكاليف توليد الكهرباء وتسببت بعجز 70 مليون إنسان، ممن استطاعوا الوصول إلى الكهرباء سابقاً قبل اندلاع الأزمة، عن تحمل تكاليفها الآن. ومن عواقبها أيضاً تراجع قدرة الكثيرين على الوصول إلى وقود نظيف للطهي، مما أجبر المجتمعات الهشة مناخياً على استخدام وقود الانبعاثات الكثيفة الذي يهدد صحتهم وصحة أسرهم. وفيما يواصل هذا المشهد الجديد التشكل، هناك ثابت واحد مفاده ألا عودة للأمور لما كانت عليه من قبل.
ورغم عدم وجود حل سحري لهذا الوضع المعقد والمستمر، فإنه يؤكد لنا نقطة مركزية جوهرها ضرورة تسريع التحول نحو حلول أكثر استدامة للطاقة، بالتزامن مع رسم ملامح المنظومة المستقبلية العالمية لقطاعها.

ومع تبني المزيد من الدول لأهداف وسياسات طموحة في مجال الطاقة المتجددة، تعزز دولة الإمارات دورها الريادي كمزود موثوق للطاقة وداعم أساسي لتطوير حلول الطاقة النظيفة والمتجددة.

والإمارات حريصة على مواصلة دعم الشراكات الاستراتيجية الدولية لإبقاء تحول الطاقة على المسار الصحيح. وهذه الشراكات ستكون محور تركيز أساسي بالنسبة لمؤتمر الأطراف «COP28» الذي تستضيفه دولة الإمارات هذا العام، فيما توظف علاقاتها الدولية مع الجميع لتكون نقطة التقاء عالمية لتحقيق إجماع دولي على أفضل المسارات المستقبلية وأكثرها كفاءة للعمل المناخي في هذا السياق الجيوسياسي.
وبعد توقيع دولة الإمارات وألمانيا في سبتمبر الماضي اتفاقية تسريع الجهود المشتركة لتعزيز أمن الطاقة وإزالة الكربون ومواجهة التغير المناخي، سلّمت الدولة الدفعة الأولى من الأمونيا منخفضة الكربون، تأكيداً على التزامها بحلول الطاقة النوعية وقت الحاجة إليها.
لقد أدركت دول العالم هذا الواقع وبدأت أخذ زمام المبادرة لتضع مزيجاً متنوعاً للطاقة كمحور لسياسات أمن الطاقة لديها. وتم تصميم مجموعة من السياسات الهادفة لزيادة حصص الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة المحلي في كل من الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا والهند، بالإضافة إلى العمل على تسريع إزالة الكربون من الصناعات وتعزيز طموحات خفض الانبعاثات.
وعليه، ارتفعت الاستثمارات العالمية في تقنيات تحول الطاقة وكفاءة استخدامها عام 2022 إلى رقم قياسي جديد بلغ 1.3 تريليون دولار. وهي زيادة بنسبة 19 بالمائة عن مجموع الاستثمارات المسجلة عام 2021، وبزيادة بنسبة 50 بالمائة عن فترة ما قبل الجائحة عام 2019، وذلك بحسب تقرير حديث صادر عن الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا» ومبادرة سياسات المناخ.
هذه الأرقام تظهر بوضوح تسريع العديد من الدول خطط تحول الطاقة، استجابة للتغيرات الجيوسياسية والاضطراب في إمدادات ومصادر الطاقة التقليدية. وهو ما يعكس إيمان تلك الدول بفوائد إيجاد مزيج أكثر تنوعاً واستدامة للطاقة. لكن هذا التقرير المشترك الصادر عن «آيرينا» ومبادرة سياسات المناخ على هامش المؤتمر الدولي الإسباني للطاقة المتجددة في مدريد مؤخراً، يؤكد أيضاً أن الرقم القياسي للاستثمارات العالمية في الطاقة المتجددة لا يزال دون 40 بالمائة من متوسط الاستثمارات المطلوبة سنوياً بين عامي 2021 و2030 وفقاً لسيناريو الإبقاء على ارتفاع درجة حرارة الكوكب دون 1.5 درجة بحسب وكالة «آيرينا».
وتزامناً مع توقع استحواذ الطاقة المتجددة على 95 بالمائة من الزيادة في قدرات إنتاج الطاقة عالمياً من كل المصادر خلال العامين المقبلين، يجب على المجتمع الدولي البناء على هذا الإنجاز والاستفادة من هذا الزخم لضمان تحول شامل للطاقة وتخطي العقبات الماثلة في طريق بناء اقتصادات محايدة مناخياً. وعلينا ضمان توظيف الاستثمارات في التقنيات الملائمة والحلول المطلوبة من أجل تحول عملي للطاقة، وتنويع مزيجها، ودعم تطوير صناعات جديدة، وتوفير فرص عمل واعدة فيها.
الأزمة الأوكرانية كشفت عناصر هشة في منظومة الطاقة العالمية، لكنها أكدت أيضاً أن حلول الطاقة المتجددة قادرة مع الوقت على سد الفجوة بين الطلب والعرض. ومفتاح التقدم هو تحقيق توازن بين ضمان أمن الطاقة وتعزيز العمل المناخي. وهو أمر يجب أن يبقى محور اهتمامنا جميعاً.
*المندوب الدائم لدولة الإمارات العربية المتحدة لدى الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا»