يستدل من تحليل بعض الأرقام الرسمية والمؤشرات المالية والاقتصادية، أن مصارف لبنان التي تنفذ منذ نحو أسبوعين إضراباً عن العمل وإقفالاً لإداراتها وفروعها في مختلف المناطق، احتجاجاً على إصدار أحكام قضائية ضد عدد منها لصالح بعض أصحاب الودائع.. أن هذه المصارف تواجه في الوقت الحالي أوضاعاً «كارثية» نتيجة لأعمالها خلال السنوات الثلاث الماضية. ومع ذلك فهي لا تعتبر من الناحية القانونية «مفلسة»، بل «متعثرة» فحسب، ولا تزال في مرحلة «التوقف عن الدفع»، أي المرحلة التي تسبق «الإفلاس». 
في نهاية العام الماضي، بلغ عجز ميزان المدفوعات 3.2 مليار دولار، بزيادة نسبتها 63% مقارنة مع العجز المسجل في نهاية عام 2021 والبالغ 1.96 مليار دولار. وبذلك بلغت قيمة العجز المتراكم منذ نهاية عام 2019 حتى نهاية العام الماضي نحو 21.55 مليار دولار. وهذا مع العلم أن نتائج ميزان المدفوعات تعكس الأوضاع الحقيقية للاقتصاد، وقيمة النقد الوطني، ونشاط القطاعين المالي والمصرفي على ضوء صافي خروج ودخول العملات الصعبة مهما كان شكلها ومصدرها. وهكذا يعبّر عجز ميزان المدفوعات عن خروج عملات أجنبية أكثر من التي دخلت. ومن أبرز مكوناته: الميزان التجاري الذي سجل بنهاية العام الماضي عجزاً بلغ 15.5 مليار دولار، وتحويلات المغتربين التي يقدر الصافي منها بأكثر من 3 مليارات دولار.
وفي ظل استمرار العجز التراكمي لميزان المدفوعات، مع الانسداد السياسي لأزمات الحكم، نتيجة الفراغ الرئاسي وعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وتسيير الشؤون العامة بوساطة حكومة مستقيلة تقوم بتصريف الأعمال.. تدهورَ سعرُ صرف الليرة اللبنانية حتى تجاوز سعر دولار بيروت 76 ألف ليرة. الأمر الذي رفع نسبة الأسر التي ترزح تحت خط الفقر إلى 75% (المتوسط العالمي 28%)، منهم 36% يعيشون تحت خط الفقر المدقع (المتوسط العالمي 9%).
وقد تأثر القطاع المصرفي هو كذلك باستمرار العجز التراكمي لميزان المدفوعات، حيث انخفضت الودائع بالعملات الأجنبية بين أكتوبر 2019 وديسمبر 2022 بنحو 28 مليار دولار، وكذلك القروض بالمبلغ نفسه، بينما انخفضت سيولة المصارف بالنقد الأجنبي بما قيمته 4.2 مليار دولار. وبتفصيل أوسع، فقد انخفض إجمالي ودائع الزبائن بما يعادل 42.7 مليار دولار نتيجةَ عمليات سحب وسداد قروض بحجم ملحوظ، وعليه فقد تراجعت الودائع الإجمالية خلال الفترة ذاتها من 168.4 مليار دولار إلى 125.7 مليار دولار، أي بنسبة 25.4%. وقد لوحظ أن المصارف تكبدت خسائر بقيمة 11.2 مليار دولار، وهذه ليست كل الخسائر المترتبة عليها، إنما هي الخسائر التي نجمت عن قسم من محفظتها، وليس فيها أي شطب لخسائر ناجمة عن توظيفاتها لدى «المركزي»، إلى جانب خسائرها في «اليوروبوند» وخسائر مراكز القطع السلبية بالدولار. 
ورغم أن مصارف لبنان في وضع «متعثر» وهي «متوقفة عن الدفع»، وعلى أبواب «الإفلاس الشامل»، فإنها أيضاً على مفترق طرق، إما النهوض أو التدهور. وهذا ما أكده تقرير حديث صادر عن «بنك عودة»، إذ أشار إلى ضرورة تحقيق سيناريو سياسي اقتصادي إيجابي للنهوض بلبنان، كي يسجل نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 5%، وتضخماً أقل من 30%، في ظل استقرار نسبي لسعر الصرف. ويتمحور هذا السيناريو الإيجابي حول انتخاب رئيس جديد للجمهورية في أسرع وقت، وتشكيل حكومة فعالة وذات مصداقية، ثم اتفاق شامل مع صندوق النقد الدولي. على أن يتعزز الوضع في المديين المتوسط والبعيد مع بداية التنقيب عن الغاز (عقب اتفاق الترسيم الموقّع) والذي يحسّن وضعية لبنان الخارجية، وعلاقاته العربية والدولية، وعجز المالية العامة والآفاق الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام. وبانتظار أن يتحقق ذلك، يواجه اللبنانيون المزيد من التدهور، والتداعيات السلبية لممارسات «الدولة الفاشلة». 

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية