يمكن توقّع الحروب والاستعداد لها، ومع ذلك يصعب ضمان نتائجها أو إبقاء الخسائر البشرية والعمرانية والاقتصادية تحت السيطرة لدى طرفيها أو أطرافها. حتى الأعاصير والسيول والجفاف بات ممكناً تحديد مواقعها ومواعيدها، لكن الاستعداد لمواجهتها، وإنْ كان كافياً، لا يمنع أن تصبح مناطق كثيرة منكوبة، ومثلها مناطق البراكين. ورغم أن التقدم العلمي صار قادراً على رصد الأوبئة، مما يتيح حصرها وإيجاد اللقاحات لمعالجة آثارها، فإن جائحة كورونا دهمت العالم في غضون أسابيع قليلة وعطّلت الحياة في معظم أنحائه جاعلةً من العام 2020 وبعض من 2021 حقبةً سوداء على أكثر من صعيد.

أما الزلازل فبقيت لغزاً كابوسياً، إذ يمكن للمراكز التي تراقب حركة طبقات الأرض أن تتوقّعها افتراضياً، لكن من دون أن تعيّن مركزها مسبقاً أو تقدّر قوّتها أو تطلق إنذارَ التحسّب لها.

وفي حال انشقاق الصدع الأناضولي الممتد بين تركيا وسوريا، ما كان في وسع أي سلطات أن تتهيّأ لكارثة طبيعية لا تعرف تماماً حجم متطلّباتها، ولا كان متصوَّراً إخراج عشرات ملايين البشر ليلاً من مساكنهم وسط الثلوج والصقيع، لمجرّد التحوّط مما سيحدث، مع ما يرافق ذلك من هلع وفوضى. بضع عشرات من الثواني قد تكون أقلّ من دقيقة أو أكثر قليلاً حوّلت شريطاً من مدن وبلدات وقرى على مدى أكثر من مئتي كيلومتر إلى ركام رهيب. أياً يكن عدد الذين استنقذوا من الأنقاض فإنه سيبقى أقلّ بكثير من الذين قضوا تحتها وما يزال متعذّراً تقدير عددهم، بل سيمضي وقت طويل قبل التعرّف إليهم.

فتلك المناطق في تركيا كانت تُعتبر آمنة للأتراك ولأعداد كبيرة من اللاجئين السوريين، أما امتدادها السوري فمتفاوت بين الآمن نسبياً وبين تحوّله ملاذاً للنازحين. كما الطيور التي قيل إنها تستشعر مسبقاً هذا الحدث الهائل، سارع كثيرون إلى الشوارع والمساحات الخالية، لكنهم أصبحوا في ثوانٍ بلا مأوى ولا مقتنيات ولا غذاء.

وهذا عبء إضافي آخر لم يكن ممكناً الاستعداد له. حدث ذلك في تركيا ثماني مرات خلال ثمانية عقود متتالية، وتنقّل في العقدين الأخيرين بين أرجاء وسط آسيا وشرقها وصولاً إلى هايتي، وبين دولٍ لديها قدرات وأخرى معدومة الإمكانات، حاصداً أكثر من مليون ضحية مع تقديرات متفاوتة لأعداد المفقودين، أما المصابون فتجاوزوا هذا العدد بأضعاف، عدا الذين كانوا مضطرّين لمعاودة تأسيس حياتهم من الصفر.

وفي كل مرّة كان الدرس الأول أن دولة تتعرّض لكارثة كهذه لا تستطيع مواجهتها من دون مساعدات خارجية، أقلّه في الأيام الأولى، سواء لتسريع إنقاذ الأرواح أو لسدّ النقص في الإمدادات والمساهمة في إعادة ولو جزئية لانتظام الحياة.

ورغم أن المجتمع الدولي وضع السياسات الاستباقية للكوارث في أولوياته، خصوصاً من تسونامي إندونيسيا (ديسمبر 2004)، فإن فورية الحدث وفُجاءته وهوله غالباً ما تلتف على أي خطط مرسومة، وبالنسبة للوقت الراهن فلطالما تخوّفت منظمات الأمم المتحدة من أن الحروب والأزمات العالمية لا تنفكّ تقلّص حجم الاستجابات للأوضاع الإنسانية.

دروس كثيرة فرضها زلزال تركيا وسوريا، مع تساؤلات دائمة عن إمكان التحسّب للكوارث، وتحديداً حين تحدث الكارثة في سياق حروب ونزاعات أهلية، مما يفاقم المعاناة إلى حدّ لا يحتمله البشر. مرّت قبل أيام صرخة محقّة لشيخ الأزهر إذ غرّد داعياً إلى «انتفاضة عالمية لإغاثة المتضرّرين»، فيما كان علماء غربيون يقولون إن الاستعداد للزلازل لا يقلّ أهميةً عن جهود الإنقاذ وإعادة الإعمار.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن