كتبتُ على هذه الصفحة بتاريخ 2022/11/8 بعنوان «اختبار جديد للديمقراطية»، محذِّراً من التداعيات المُحتملة لاعتراض أنصار الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو على نتائج الانتخابات، ومتسائلًا في نهاية المقالة عما إذا كانت القيم الديمقراطية ستَصمُد أم أن نتائج الانتخابات الرئاسية البرازيلية ستمثل إضافةً جديدةً لأزمة الديمقراطية؟ وبعد شهرين بالتمام وقع المحظور، واقتحم آلافٌ من أنصار الرئيس السابق القصرَ الرئاسيَّ ومقريْ الكونجرس والمحكمةَ العليا في العاصمة البرازيلية، يوم 8 يناير الجاري، وخلال ذلك خرَّبوا هذه المقار ونهبوا محتوياتها. ورغم تجاوز الأزمة واستعادة السيطرة على العاصمة ومؤسسات الدولة، فإن دلالات الأزمة من منظور تهديد الديمقراطية غير خافية، خاصة بعد أن عُثِر في منزل وزير العدل في حكومة بولسونارو السابقة على مسودة بيان تنص على تدابير طارئة كانت ستسمح بإلغاء نتيجة الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها لولا داسيلفا! وتُجرى التحقيقاتُ الآن لتحديد المسؤولية عما وقع. غير أن ثمة احتمالاً بألا تكون هذه الأحداثُ نهايةَ المطاف، وأن يواجه داسيلفا سنواتٍ صعبةً في ولايته الرئاسية الثالثة.
لكن نقطةَ التركيز في هذه المقالة هي وضع هذه الأزمة في سياق ما يمكن تسميته بالتهديد المتزايد للديمقراطية في السنوات الأخيرة. وقد جرت العادةُ أن تُناقش مهدداتُ الديمقراطية في الديمقراطيات الناشئة التي لا تكون القيمُ والممارسات الديمقراطية متجذرةً فيها على نحو كافٍ، مما يسهل الانقلاب عليها. وربما كانت الحالتان الوحيدتان لتهديد ديمقراطية راسخة، أي اللتان جرت فيهما ممارسات مناقضة لمعايير الديمقراطية الليبرالية، هما الحالة الفرنسية التي شهدت سقوط الجمهورية الرابعة بفعل تدخل الجيش الفرنسي في 1958 وتنصيب الجنرال شارل ديجول على رأس السلطة، والانقلاب العسكري في اليونان عام 1967. وهذا مع العلم بأن التطورات الفرنسية كانت نتيجة لأزمة حرب التحرير الجزائرية التي بدت الجمهورية الرابعة عاجزةً في مواجهتها، وسرعان ما تمت العودة إلى أسس الممارسة الديمقراطية في غضون أربعة أشهر عقب استفتاء شعبي على دستور الجمهورية الجديدة. أما الحالة اليونانية التي دامت سبع سنوات فكانت نتيجةً طبيعيةً لثلاثة عقود من الانقسام بين اليسار واليمين. وفيما عدا هاتين الحالتين يمكن القول بأن النموذج الديمقراطي الليبرالي لم يواجه مخاطرَ حقيقيةً من داخله. 

غير أن عام 2021 شهد تطوراً لافتاً في أيامه الأولى، وهو أحداث 6 يناير التي اقتحم فيها المحتجون مبنى الكونجرس الأميركي في سابقة هي الأولى من نوعها، تعبيراً عن رفضهم لنتيجة الانتخابات الرئاسية التي خسرها الرئيس السابق دونالد ترامب ورفض الاعتراف بهزيمته فيها، مدعياً أن تزويراً شابَهَا. وحاول الضغط من أجل تغيير النتائج، ثم نشر تغريدة دعا فيها لاجتماع حاشد في واشنطن اعتُبرت تحريضاً على أحداث 6 يناير. وهنا مكمن الخطر والتهديد للديمقراطية، لأن الأحداث لا تتعلق مثلًا بأزمة وطنية يحتاج تجاوزها عَمَلاً استثنائياً، وإنما يتعلق بالجوهر الديمقراطي ذاته وهو حكم الأغلبية، فبدون هذا المبدأ تفقد الديمقراطيةُ منطقَها. وهو ما تكرر مع أحداث البرازيل الأخيرة. وبين الحدثين وقعت في الشهر الماضي أحداث تأتي في سياق ظاهرة تهديد الديمقراطية، وهي إلقاء السلطات الألمانية القبضَ على 25 من أعضاء جماعة يمينية متطرفة قال ممثل الادعاء إنهم كانوا يعدون لقلب نظام الحكم، وإن خطتَهم كانت ترمي إلى اقتحام البرلمان والاستيلاء على السلطة وتنفيذ هجمات مسلحة على المؤسسات الألمانية، وإن لهم ذراعاً عسكرياً وتنظيماً سياسياً، وإن عضواً في عائلة ملكية سابقة في ألمانيا هو زعيمهم. ولا يمكن فصل هذا الحدث عن ظاهرة صعود اليمين المتطرف في أوروبا.
وتطرح كل هذه التطورات سؤالاً بالغ الأهمية عما إذا كانت الديمقراطية في بلدانها الراسخة سوف تواجه تحدياً حقيقياً في مستقبل الأيام، وكذلك عن بدائل التحرك من أجل حماية الديمقراطية.
 *أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة