إذا كنتَ تعتقد أن علماء الاقتصاد ليسوا من هواة الحفلات والسهرات، فإنك على حق. أو على الأقل، تلك هي الخلاصة التي قد يخلص إليها المرء من حقيقة أن عدداً من الاقتصاديين المرموقين انخرطوا في نقاشٍ جاد ورصين على الإنترنت حول التضخم خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي – أي في ليلة رأس السنة الجديدة واليوم الذي بعدها، تحديداً في الوقت الذي كنتُ أعتقد أنه كان يفترض بنا أن نكون بصدد الاحتفال مع الأهل والأصدقاء. ولكنه كان نقاشاً مفيداً حقاً - نقاشاً من النوع الذي كنتُ أسعى وراءه كل هذه السنوات الماضية حين اخترتُ الاقتصاد مهنةً وتخصصاً، إذ كان خالياً من التسييس والقبح نسبياً. ولكن هذا لا يعني أنه كان من دون تداعيات سياسية.

النقاش أطلقه أوليفييه بلانشار، كبير اقتصاديي «صندوق النقد الدولي» سابقاً (وهو شخصية بارزة في المجال، تصادف أن كان أحد الاقتصاديين الذين تبين أن فهمهم وتنبؤاتهم بشأن التضخم كانت صحيحة عموماً). بدأ النقاش بتوضيح فكرة قال إنها «كثيراً ما تضيع في نقاشات التضخم وسياسة البنك المركزي». وأضاف يقول: «إن التضخم في الجوهر هو نتيجة للتوتر التوزيعي بين الشركات والعمال ودافعي الضرائب. وهو لا يتوقف إلا حينما يرغم مختلف اللاعبين لقبول النتيجة».

وعلى الرغم من أن بلانشار ليس يسارياً، إلا أنه تعرض لصدٍّ فوري من اقتصاديين شددوا على أن التضخم يكون دائماً نتيجة الطلب المفرط، نتيجة لمطاردة الكثير من الأموال لعدد قليل جداً من السلع، أو نتيجة اقتصاد مفرط الحرارة. النقاش تميز بتشديد المشاركين فيه على جوانب مختلفة من القصة نفسها. ولكن هناك أيضاً بعض القضايا الحقيقية المتعلقة بالسياسات، والتي تميل، مثلما قال «بلانشار»، إلى أن تضيع حين نفكر في التضخم فقط باعتباره مسألة تعود إلى «الاحتياطي الفيدرالي» (البنك المركزي الأميركي) ونظرائه في الخارج. على أحد المستويات، بلانشار محق بالطبع. ذلك أن الشركات التي تفرض أسعاراً مرتفعة والعمال الذين يطالبون بأجور مرتفعة لا يفعلون ذلك لأن العرض النقدي قد ازداد، وإنما يحاولون زيادة مداخيلهم (أو تعويض الانخفاض في مداخيلهم الذي تسبب فيه... ارتفاع أسعار الطاقة، مثلاً). والتضخم يحدث حين تكون محاولات الشركات والعمال للمطالبة بحصة أكبر من الكعكة الاقتصادية غير متسقة وغير منسجمة، حين تتجاوز القدرةُ الشرائية الإضافية المطالَب بها ما يستطيع الاقتصاد تحقيقه.

حين كنت أتابعُ النقاش، وجدتُني أتذكر ملاحظة أشار إليها في السبعينيات ويليام نوردهوس، وهو عالم اقتصاد مرموق آخر (وحائز على جائزة نوبل)، شاءت الصدف أن يكون أول مرشد لي في المجال. نوردهوس شبّه التضخم بما يحدث في ملعب لكرة القدم الأميركية حين تكون الحركة على الملعب مثيرةً جداً (إذا كنتَ تجد كرة القدم الأميركية غير مثيرة، ففكر في مباراة لكرة القدم).

الجميع يقف من أجل الحصول على رؤية أفضل، والحال أن هذا ضرب من هزم الذات الجماعي، ذلك أن رؤيتك لا تتحسن لأن الناس الذين أمامك واقفون أيضاً، وفضلاً عن ذلك، أنت غير مرتاح. ما يقوله الأشخاص الذين يرون أن سبب التضخم هو الاقتصاد الساخن هو أنه إذا كان السبب المباشر لعدم الشعور بالراحة في الملعب هو أن الناس يحاولون الحصول على رؤية أفضل للعب على حساب آخرين، فإن السبب الأصلي للمشكلة هو أن المباراة أصبحت أكثر إثارة.

فالشركات سترغب دائماً في زيادة الأسعار والعمال سيرغبون دائماً في التفاوض حول أسعار أعلى، ولكنهم لا يسعون وراء ذلك إلا حين تكون المبيعات مرتفعة والوظائف متوافرة. أما إذا هدأت الأمور: إذ جعلتَ المباراة أقل إثارة للاهتمام – أي، إذا دفعت الاقتصاد إلى تباطؤ أو حتى إلى ركود – فإن الناس سيعودون إلى مقاعدهم – أي أن التضخم سيتباطأ.

وهذه بشكل عام هي السياسة التي تتبعها الاقتصاداتُ الكبيرة من أجل السيطرة على التضخم. فـ«الاحتياطي الفيدرالي» و«البنك المركزي الأوروبي» يرفعان معدلات الفائدة في محاولةٍ مقصودةٍ لإبطاء اقتصاديهما ومواجهة خطر الركود، بالضبط من أجل إقناع الشركات بأنها لم تعد تملك «قوة التسعير» (زيادة الأسعار) وإقناع العمال بأنهم لا يمكنهم المطالبة بهذه الزيادات الكبيرة في الأجور.

هل من الحماقة حقاًّ تخيل أننا قادرون على جعل المعركة ضد التضخم أقل إيلاماً بعض الشيء، عبر البحث عن أدواتٍ أخرى غير الزيادة في معدلات الفائدة، إلى أن تعرف الشركات والعمال حدودهم؟ الرئيس الأميركي جو بايدن انتُقد كثيراً بسبب ضغطه على الشركات التي يتهمها باستغلال التضخم للانخراط في التربح السريع والمبالغ فيه. والدول الأوروبية انتُقدت بسبب محاولة احتواء فواتير الطاقة من خلال تحديد الأسعار ومراقبتها. وبوسعنا مناقشة تفاصيل هذه السياسات، ولكن هل هي مخطئة من حيث المبدأ؟ إن الجواب الذي تلقيتُه من نقاش عطلة نهاية الأسبوع هو لا.

ومما لا شك فيه أنه مما يثلج الصدر أن ترى علماء اقتصاد مرموقين مستعدين لإعادة النظر وتغيير مواقفهم من تشدد السياسات الحالية.

*أكاديمي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز» Canonical URL: https://www.nytimes.com/2023/01/03/opinion/inflation-economy.html