يبدو أن مشكلة تلوث الهواء في الهند لا تزداد إلا تفاقماً، ففي كل شتاء تغشى العاصمةَ دلهي كتلةٌ رماديةٌ يتنفس الناسُ معها هواءً أعلى من الحد الآمن بسبع إلى تسع مرات. وقد وصفت منظمة الصحة العالمية في السنوات الأخيرة عاصمةَ البلاد، التي يبلغ عدد سكانها 16 مليون نسمة، بأنها أكثر مدينة تلوثاً، حيث تضاعفت مستويات التلوث خلال العقد الأخير بسبب ازدياد أعداد المركبات الخاصة، وسوء وسائل النقل العام، واحتراق النفايات، وانتشار أعمال البناء. ووصفت المحكمةُ العليا في دلهي مقرَّ السلطة الفدرالية بأنه أشبه بـ «غرفة غاز». وعادة ما تبدأ مستويات التلوث في هذه المدينة بالارتفاع خلال أشهر الشتاء بسبب إحراق المزارعين بقايا محاصيلهم بعد موسم الحصاد في الولايات المجاورة وعلوق الملوِّثات في الغلاف الجوي العلوي خلال هذه الفترة من العام. 
غير أن التلوثَ لا يقتصر على العاصمة فقط، بل بات يمثل مشكلةً بالنسبة للعديد من المدن الأخرى. وفي مفاجأة هذا الشتاء، عرفت مومباي التي تُعد العاصمة المالية والتجارية للبلاد، تلوثاً جوياً أسوأ من دلهي في شهري نوفمبر وديسمبر. وهذا أمر مفاجئ لأن مومباي تقع على الساحل، والاعتقاد العام السائد عادةً هو أن نسيمَ البحر يدفع الملوثاتِ ويبعدُها. لكن في هذا العام تغيرت الأنماط المناخية، حيث انعدم نسيم البحر وانخفضت سرعة الرياح، ما أدى إلى بقاء الملوّثات في أجواء المدينة. 
العاصمة التجارية للبلاد، والتي يفوق عددُ سكانِها 18 مليونَ نسمةٍ، تشهد هي كذلك عدداً من مشاريع البنية التحتية الكبيرة، مثل توسيع نظام النقل الجماعي السريع وإنشاء طريق ساحلي. وفي أوائل ديسمبر الماضي، سجّل مؤشرُ جودة الهواء في مومباي مستوى «سيئاً» على مدى عشرين يوماً. وعانت المدينة لعدة أيام من سوء جودة الهواء وانخفاض مستوى الرؤية خلال شهري نوفمبر وديسمبر. ويُعتقد أن أخطر أنواع الملوثات في المدينة هي الجسيمات الدقيقة (بي إم 2,5) و(بي إم 10) وثاني أوكسيد النيتروجين (إن أو 2)، والتي تنبعث من عوادم المركبات، ومواقع البناء، والوحدات الصناعية، ومحطات توليد الطاقة. 
وقد أصبح التلوثُ مشكلة متنامية في الهند، إذ تضاعفت مستوياتُه في العديد من المدن خلال العقد الماضي بسبب تضافر مجموعة قاتلة من العوامل التي تشمل: التصنيع السريع، والارتفاع الكبير في أعداد المركبات، وبناء المنازل من دون مراقبة في المناطق الحضرية، والتطبيق الضعيف للقوانين واللوائح. ونتيجة لذلك توجد 35 مدينة هندية ضمن قائمة المدن الأكثر تلوثاً في العالَم.
وشهدت مدينة تشيناي الجنوبية هذا الموسم هي كذلك ارتفاعاً مفاجئاً في مستويات التلوث بسبب ظروف جوية غير مواتية. وفضلاً عن ذلك، فإن التأثيرات الصحية متعددة. وفي هذا السياق، تشير بعض التقديرات إلى أن تلوث الهواء في جنوب آسيا يتسبب في الموت المبكر لمليوني شخص كل عام. والجدير بالذكر هنا أيضاً أن مستويات «بي إم 2,5»، وهي عبارة عن جسيمات دقيقة جداً يبلغ قطرها 2,5 ميكرون أو أقل ويقال إن لها علاقة بالتهاب الشعب الهوائية المزمن وسرطان الرئة وأمراض القلب، ظلّت أعلى من الحد الآمن بعدة مرات.
وتنص إرشادات منظمة الصحة العالمية على أن متوسط مستوى «إم بي 10» ينبغي ألا يتجاوز بضع ميكروغرامات لكل متر مكعب من الهواء. ولكن في الهند، تتجاوز المستويات الحد الآمن مرات عدة خلال الأيام التي يكون فيها التلوث مرتفعاً. وفي هذا السياق، خلص تقرير صدر العام الماضي عن «معهد التأثيرات الصحية»، وهو وكالة تموّلها الولايات المتحدة، إلى أن تلوث الهواء يمكن أن يكون مسؤولاً عن موت 120 ألف رضيع في شهرهم الأول في الهند. كما وجَدت دراسةٌ لاختبارات وظائف الرئة، شملت 43 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 13 سنة و17 سنة، وأنجزتها «مؤسسة العناية بالرئة» غير الربحية في نيودلهي، أن طفلاً واحداً من أصل ثلاثة أطفال في دلهي يعاني من ضعف وظائف الرئة. وشيئاً فشيئاً بدأ يتبين أن التلوث لا يقتصر على دلهي بل أخذ يصبح مشكلةً حقيقيةً عبر البلاد. والمشكلة هي أن التلوث لا يعالَج بطريقة شمولية في البلاد، ذلك أن هناك حلولاً مرتجلةً وظرفيةً، وحين ينخفض مستوى التلوث يصبح مشكلةً منسيةً في الفضاء السياسي وبين الجمهور. 
وفي الأثناء، أطلقت حكومة ناريندرا مودي «البرنامج الوطني للهواء النقي» الذي يرمي إلى توحيد الجهود التي تتخذ في 29 ولاية و4 آلاف مدينة وبلدة عبر البلاد. وفي هذا الصدد، حدّد البرنامج 100 مدينة لا تستوفي معايير الهواء النقي. وعلى الرغم من أن عمل البرنامج ما زال متواصلاً وفي مرحلته الأولى، فإنه لا يوجد تنسيق بين الحكومات المختلفة التي تحكمها أحزاب سياسية ذات ألوان سياسية مختلفة. لكن أحد الأشياء الإيجابية هو أن التلوث بدأ يحظى باهتمام سياسي أكبر. فقد كان التلوث كموضوع حاضراً في الانتخابات العامة السابقة. وخلال الأشهر القليلة التي تسبق انتخابات 2024، سيتعين على كل الأحزاب السياسية تناولَ موضوع التلوث واقتراح حلول له ضمن برامجها الانتخابية. 
وخلاصة القول هي أن الهند، التي وعدت بتقليص الانبعاثات والوفاء بأهدافها المناخية، مطالَبة بمعالجة معضلة التلوث بسرعة لأنه عاماً بعد آخر تزداد نوعية الهواء سوءاً. وإذا لم تُتخذ تدابير صارمة لمعالجتها، فسيكون من الصعب على البلاد الخروج من هذه الدوامة الخطيرة لتفاقم التلوث الذي يؤثّر بشكل متزايد على معظم المدن الرئيسية في البلاد.

*رئيس مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي