لا أُحِب عادة الكتابة عن عام مضى وآخر قادم، لأني لا أعتبر العام وحدة موضوعية ذات ملامح محددة خاصة بها، فقد تبدأ ظاهرة جديدة في النصف الثاني من عام وتكتمل في النصف الأول من العام الذي يليه، لكن عام 2022 كان ذَا ملامح خاصة بامتياز، فقد بدأ بإرهاصات مواجهة بين روسيا والغرب، وتفجرت المواجهة بالفعل في 24 فبراير، وكان جوهرها هو محاولات التحالف الغربي بزعامة الولايات المتحدة خنق روسيا باستكمال توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي كان قد ضم كافةَ أعضاء «حلف وارسو» السابق الذي مثّل التجسيد القانوني والعسكري للكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي، بل وضم كذلك ثَلَاثاً من الجمهوريات السوفييتية السابقة هي لاتفيا وليتوانيا وإستونيا. غير أن هدف التوسع هذه المرة كان أوكرانيا، الجمهورية السوفييتية السابقة ذات التاريخ شديد الخصوصية بالنسبة لروسيا. وبعد أن فشلت محاولات روسيا لإثناء الغرب عن مخطط ضم أوكرانيا، أطلقت عمليتها العسكرية في محاولة لأن تحقق بالقوة ما فشلت في تحقيقه بالإقناع.
وقد قيل إن هذه العملية بدايةٌ لنظام دولي جديد، والأدقُّ أنها بمثابة اختبار لموازين القوى فيه؛ فقد جاءت البدايات منذ سنوات عندما تعثر الغزو الأميركي للعراق عام 2003، إذ لم تستطع الولايات المتحدة تحقيقَ أهدافها من خلاله اللهم إلا إسقاط نظام صدام حسين. وتكرر التعثر ذاته في عملية الغزو الأميركي لأفغانستان الذي وقع قبل غزو العراق بشهور وانتهى في عام 2021 بانسحاب عسكري أميركي رآه الكثيرون هزيمةً. وجنباً إلى جنب مع هذه التطورات كانت روسيا قد استعادت التوازنَ لقوتها العسكرية المتفوقة وأعادت بناءَ اقتصادها بما جعلها تعود للمسرح الدولي كقوة كبرى، كما ظهر في تدخلاتها في بعض جمهورياتها السابقة وضمها في عام 2014 لشبه جزيرة القرم التابعة لأوكرانيا والتي كانت في الأصل جزءاً من روسيا تم ضمه لأوكرانيا في عام 1954. والأهم من ذلك تدخلها العسكري المباشر في سوريا عام 2015، والذي كان له أكبر الأثر في تغيير ميزان القوى في الصراع الدائر هناك. 

ويُضاف إلى الصعود الروسي الواضح مواصلة الصين صعودَها الدؤوب نحو القمة. ولم يكن مصادفةً أن يلتقي الرئيسان الصيني والروسي في بكين قبل العملية العسكرية بأيام، وأن يصدر عن لقائهما بيان مشترك يمكن اعتباره «مانيفستو» النظام الدولي الجديد، حيث رفض البيانُ بوضوحٍ تامٍ الأحاديةَ، وطالب ببناء نظام تعددي يستند إلى قيم مغايرة للقيم التي قام عليها النظام الدولي الحالي. وبدا وكأن العملية العسكرية التي انطلقت في 24 فبراير هي الترجمة العسكرية لما ورد في البيان.
ولأن الولايات المتحدة تدرك مغزى هذه العملية وتداعيات نجاحها، فقد ألقت بثقلها ومن خلفها التحالف الغربي في الكفة الأوكرانية، واستطاعت بذلك أن تحقق نوعاً من التوازن الذي أثار أسئلةً حول السيناريوهات المستقبلية للحرب، وثمة احتمال في أن يشهد العام الجديد نهايةً لها ليس من خلال تسوية أساساً، فالتوصل إليها بالغ الصعوبة للتناقض التام بين أهداف طرفيها، وإنما قد يشهد تراجعاً في القدرات العسكرية والاقتصادية بدرجات متفاوتة لطرفي الحرب أو أحدهما، الأمر الذي قد يفتح الباب لتحولات داخلية تفضي لظروف أفضل لإيجاد تسوية.
وأياً كانت معالم هذه التسوية فإن هناك حقائق أكيدة، منها أن القوة الأميركية باقية، وكذلك القوة الروسية، وإن كانت المكانة الروسية في النظام الجديد ستتوقف على ميزان العائد والتكلفة لروسيا في هذه الحرب، فإذا استطاعت روسيا تحقيق نصر واضح فستمثل في هذه الحالة قطباً ثالثاً يقف على قدم المساواة مع الولايات المتحدة والصين، وإلا فإنها ستحتل مكاناً إلى جوار الصين يشبه المكان الذي تشغله أوروبا حالياً إلى جوار الولايات المتحدة.


*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة